الكناري وأنا شُغِفتُ، مُنذ نعومة أظفاري، بتغريدِ عصفورِ الكناري.
كان لدى قريبٍ لنا، قبل النكبة، عصفورٌ كهذا في قفصٍ كبير الحجمِ ذهبيّ اللّون، وكم كنت أبتهجُ حين كانت والدتي تأخذني مَعَها لزيارة ذلك القريب وزوجته اللذين لم يمنّ الله عليهما بولدٍ، فأقضي وقتَ الزيارة كلّهُ مع الكناري مستَمتِعًا بصوته العذبِ وحركاتِه الرشيقة ولونه الأخّاذ، لكنَّ رياح النكبة عصفت بالقريبِ وزوجَتِه ولم ترحمِ العصفور.
بقيتُ أتوقُ وأمَنّي النَّفسَ بحيازة الكناري. ومرّت السّنون... نشأتُ وكبرتُ في ظروف ليست كالظروف، وظلّتِ الأمنية تراودني، إلى أن ودّعتُ العزوبيّةَ وانتقلتُ وزوجتي إلى شقّة صغيرة في الطابق العلويّ لبناية ذات أربع طبقات، تقع في بقعة مشرفةٍ على الجزء الأكبر والأجمل من مدينة حيفا الخلابَة.
اعتدتُ كلّ صباح، قبل سماع نشرة الأخبار والخروج للعمل، أن أرتشف فنجان القهوة وزوجتي في الشرفة الفسيحة، مستمتعَين بالمشهد الجميل وجهاز الراديو- ترانزيستور يصدحُ في هدوءٍ بصوتِ فيروز الملائكيّ.
بينما جلستُ ذات صباح في مكان عملي، في غرفة مكتبي المحاذية للشارع العام، طرَقَ مَسمَعي تغريدٌ عذبٌ لعصفور الكناري. هرعتُ إلى النافذة وإذ برجلٍ في العقد الخامس أو السادس من عمره، يجلس على أرضِ الرّصيف مستظِلًّا تحتَ نافذتي، وإلى جانبيه قفصان فضّيا اللون صغيرانِ، في كلّ قفصٍ عصفورٌ واحد لا غير.
- هل عصافيركَ للبيع يا حاج؟
- أجل، هي كذلك.
- كم ثمنُ العصفور؟
- هذا الذّكَرُ بستين ليرة، وهذه الأنثى بخمسين ليرة، والقفص الواحد بثلاث عشرة ليرة.
- بماذا يمتاز الذكرُ حتى يكون ثمنه الأعلى؟
- بتغريده العذب، فأنثى الكناري تزقزقُ ولا تغرّد يا بُنَيّ.
لَم يتعدَّ راتبي في ذلك الوقت المائتين وستين ليرة، أي أنّ ثمن العصفورين والقفص الواحد كاد يستهلك نصف الراتب.
بعد المساومة والأخذ والرَّد، حصلتُ على الذّكر والقفص مقابل ستين ليرة، فضلًا عن الشرح الوافي بشأن العناية بالعصفور وغذائه. كان الثمنُ باهظًا قياسًا بحالي الماديّة آنذاك، ومع ذلك فقد اعتبرتُ الصفقةَ غنيمةً!
حملتُ غنيمتي وقفلتُ عائدًا إلى البيتِ مَشيًا، مسافة ما يقاربُ نصفَ السّاعة على القدمين - فمَن الذي كانَ يملك سيّارةً في ذلك الزَّمن غير الأثرياء؟ - والعصفور في صمتٍ بَهيم.
بحثتُ في الشرفةِ عن ركنٍ مناسبٍ يصله النور والهواء، وبعد اطمئناني إلى وفرةِ الطعام والشراب اللّازمين، علّقتُ القفصَ ورحتُ أنتظرُ أن يصدَحَ الكناري وعبثًا كان انتظاري!
مرَّ يومٌ.. يومانِ.. ثلاثة...
ترى الرّجل خدعني فأعطاني الأنثى التي لا تُحسنُ التغريد؟ أم أنَّ عصفوري حزين على فراق أنثاه؟ أم تراهُ أصيبَ بعِلَّة؟
مع بزوغِ فجر اليوم الرّابع صَحَونا على صداحٍ يملأ الأجواءَ. يا لهذا الصّوتِ ما أعذبَه!
بات يحلو لي ارتشاف فنجانِ القهوة في الشرفةِ كلَّ صباح مع فيروزَ حينًا ومع الكناري آخرَ. أعود بعد عصرِ كل يومٍ من العملِ لأختليَ به ريثما تعدّ زوجتي وجبةَ الطعام.
رحتُ يومًا أراقبُهُ وأتأمّلُ حركاتِه وتنقّلاته من ناحية إلى أخرى في مجاله الضّيق:
"هذا القفصُ صغير محدود المدى. العصفور بحاجة إلى قفصٍ أكبر.
مهلاً.. مَن قال إنه بحاجةٍ إلى قفص أكبر؟ ها هو يغرّد رغمَ صِغَرِ قفصِه!
لكنْ من يدري ماذا يعني بتغريده؟ لعلّه يشكو مرارةَ السّجنِ؟ ولعله يبكي وأخاله يُغَنّي؟!
سوف أطلقُ سراح هذا المسكين".
في تلك اللحظة وجدتني أمدّ يدي غير متردّدٍ، أحمل القفصَ إلى حافّةِ الشرفة وأفتح بابه على وُسعِه...
انطلقَ الكناري يرفُّ بجناحَيه في محاولةٍ يائسة للارتفاع والتحليق، لكنه لم يُحسنِ الطيرانَ... بدا لي كأنه لم يختبر العَيش خارج قفص وكـأن جناحَيه لا يقدران على حمله؛ يرفُّ ويهبط وأنا أتابعُ هبوطهُ لحظة بلحظة، وقلبي يهبطُ معَه.
هناك في الأسفل تربَّص بهِ رقيبٌ من نَوعٍ آخر، ليتلقّفَه في الهواء قبل أن يلامسَ تراب الحديقة، يحملهُ بين أنيابه ويتوارى معَهُ بينَ الأعشاب اليابسة...