الحمد لله الذي جعل الأيام والليالي مواقيت للأعمال، ومقادير للأعمار، وجعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورًا.
أما بعد:
فإن مما يسلم به العقلاء قاطبة أن عمر الإنسان محدود، وأنه إلى نفاد، وما مضى منه فلا بدل عنه، وما بقي منه فهو غيب
لا يمكن علمه ولا حرزه، ومن حضره أجله، فلن يؤخر عنه، بل لا بد أن يمضي ملك الموت بروحه حيث أمر، وما من ميت يحضره
أجله إلا تمنى المهلة، فإن كان صالحًا فليزدَد من صالح العمل، وإن كان مفرطًا فليتُب من التقصير والزلل.
وهذا يذكرنا بقيمة العمر، وأنه إن مضى في عمل صالح، فإنه تجارة لن تبور، وما مضى منه في غير خير ولا شر فإنه وإن كانت
السلامة من الشر غنيمة قد ذهب خسارة على صاحبه؛ لأنه لم ينتفع به فيما ينفعه في الآخرة في نفس الوقت الذي اغتنمه الصالحون في الصلاح
ففازوا بعظيم الأرباح، أما ما مضى من عمر الإنسان في معصية الله تعالى فإنه مصيبة لا تجبر إلا بالتوبة إلى الله تعالى من الزلل
واستغفار الله عز وجل، والإكثار من صالح العمل، وإلا كان عرضة لما رتب الله على ذلك الذنب من عقوبة شرعية أو قدرية
فإن أصيب بتلك العقوبة كانت كفارة له وطهورًا، وإن ستره الله في الدنيا، فأمره في الآخرة إلى الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له.
لذا كان لزامًا على العاقل المؤمن بالله واليوم الآخر أن يقف مع نفسه عدة وقفات:
الأولى: أن يتذكر أمسه فما كان فيه من صالح العمل، فيحمد الله تعالى على توفيقه له ويشكر لله تعالى بالدوام
على جنسه، وما كان فرط فيه فيتوب إلى الله منه توبة نصوحًا، وكلما ذكر ذنبه ندم عليه وجدد عزما ألا يعود لمثله
ويكثر من الصدقة والاستغفار؛ تكميلًا للتوبة، واستيفاءً للأجر.
الثانية: قبل القول والعمل من أجل تصحيح النية بحيث يكون الباعث على فعل الطاعة ابتغاء وجه الله تعالى؛ رغبة في جزيل ثوابه
ويترك المعصية إجلالًا لله تعالى وخوفًا من غضبه وحذرًا من عقابه، فإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى
فإن العمل غير المقصود عبث لا قيمة له، وما لم يكن خالصًا لله تعالى فهو شرك.
الثالثة: حال إيقاع القول والعمل بحيث يؤتى به مقيدًا بالشرع في أصله وبالسنة المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم في كيفيته
حتى لا يكون بدعة لا في أصله ولا في كيفيته، فإنه لا يتعبد لله تعالى بالبدع، وإنما يتعبد له سبحانه بما شرع، وكل عمل على غير الشرع مردود.
الرابعة: بعد الفراغ من القول والعمل وذلك للاستغفار من التقصير فيه والاعتراف بالعجز عن تكميله والاغتباط
بما كان صوابًا منه والدوام عليه، فإن أحب العمل إلى الله تعالى أدومه وإن قل، والحذر مما يبطله ويذهب ثوابه كالتسميع به بالتحدث به
على وجه يقصد به تحصيل ثناء الناس وكسب المنزلة بينهم أو الطمع بشيء من دنياهم أو المن على الله تعالى بالعمل، ونحو ذلك
مما يبطل العمل بعد وقوعه، كما قال الله تعالى: ﴿ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ﴾ [محمد: 33]، وقال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى ﴾ [البقرة: 264]
بل ينبغي أن يرى أن لله تعالى وحده المنة عليه؛ فهو الذي خلق وهدى وأعان ويسر، وهو الذي يرجى أن يمن بالقبول ويعظم الأجر
قال الله تعالى: ﴿ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [الحجرات: 17].
الخامسة: وبالنسبة لغده وما يليه ـ إن كان له ـ بأن يعدله النية الصالحة بالدوام على صالح العمل والحذر
من معصية الله عزَّ وجلَّ، وذلك كله من الشكر على فسحة الأمل، والتمكين من الازدياد من الخير.
فبمراعاة هذه الأمور يبارك للمرء في عمره ويثاب على عمله، ويتحقق ربحه في آخرته بما كسب من دنياه يوم ينظر المرء ما قدمت يداه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.