وقال جلّ شأنه: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً } (الفرقان:62). قال بعض السلف: من عجز بالليل كان له في أول النهار مستعتب ( أي فرصة للاعتذار والاستغفار) ومن عجز عن النهار كان له في الليل مستعتب.
وحين يقبل الصيف بحره وقيظه يتذكر العبد المؤمن أمورا مهمة منها:
أن أشد ما يجد من الحر إنما هو مما أذن الله فيه لجهنم، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: "اشتكت النار إلى ربها، فقالت: يا رب أكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفسين؛ نفس في الشتاء ونفس في الصيف، فأشد ما تجدون من الحر من سموم جهنم، وأشد ما تجدون من البرد من زمهرير جهنم ".
فعند اشتداد الحر يتذكر المسلم النار وحرها فيستعيذ بالله منها ، وإذا رأى من نفسه فرارا من حر الدنيا بسفر إلى الأماكن الباردة أو المعتدلة، أو بالتبرد بالماء والتكييف وغيرها من الوسائل فيسأل نفسه: إذا كان هناك مهرب من حر الدنيا فأين المهرب من حر الآخرة وهو أشد؟!.
وإذا كنا أخي الحبيب لا نحتمل نار الدنيا وهي جزء من تسعة وستين جزءاً من نار الآخرة، فما الشأن في نار الآخرة؟!.
حياة قلوب السلف وتذكرهم
وقد كانت قلوب السلف الصالح رحمهم الله حية فكل ما يرونه ويشاهدونه في الدنيا يذكرهم بالآخرة.. ومن ذلك أن بعض السلف كان إذا شرب الماء البارد في الصيف بكى وتذكر أمنية أهل النار حينما يشتهون الماء، فيحال بينهم وبينه، ويقولون لأهل الجنة: {أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ } (الأعراف:50).
كما كان الواحد منهم إذا دخل الحمام في الصيف وشعر بحر المكان تذكر النار، وتذكر يوم تطبق النار على من فيها وتوصد عليهم، ويقال لهم: خلود فلا موت، فيدفعه هذا الشعور إلى مزيد من العمل والتعبد لعله ينجو.
ومن ذلك أيضاً، أن بعض الصالحين صُبَّ على رأسه ماء حار، فبكى وقال: ذكرت قوله تعالى: {يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ } (الحج: 29) فلا إله إلا الله ما أشد تذكرهم.. وما أعظم اعتبارهم!! ورأى عمر بن عبدالعزيز رحمه الله قوماً في جنازة قد هربوا من الشمس إلى الظل، وتوقوا الغبار، فبكى، ثم أنشد:
من كان حين تصيب الشمس جبهته أو الغبار، يخـاف الشـين والشعـثا
ويـألـف الظلّ كي تبقـى بـشـاشـتـه فسـوف يـسكن يومـاً راغماً جدثـا
في ظـلّ مـقـفــرة غـبـراء مـظـلـمــة يطيل تـحت الثرى في غمّها اللبثا
تــجــهّــزي بــجـهـــاز تـبـلـغـيـن بــه يا نفس قبل الردى لم تخلقي عبثا
وكان بعضهم إذا رجع من الجمعة في حرّ الظهيرة، يذكر انصراف الناس من موقف الحساب إلى الجنة أو النار، فإن الساعة تقوم يوم الجمعة.
ومن ذلك أيضاً حرصهم على الصيام في الصيف لعظيم ثوابه، ولهذا كان معاذ بن جبل وغيره من السلف رضي الله عنهم يتأسف عند موته على.. أتدري على ماذا؟ على ظمأ الهواجر.. ولهذا كان بعض الصالحين يحرص على صيام أشد أيام الصيف حرا، فيقال له في ذلك، فيقول: إن السعر إذا رخص، اشتراه كل أحد وهذا ـ وربي ـ من علو الهمة.
فيا عبدالله: جاهد نفسك على هذه الطاعة العظيمة، التي اختصها الله سبحانه من بين العبادات بقوله : "الصوم لي وأنا أجزي به " كما في الصحيحين، جاهدها ولو يوماً في كل عشرة أيام، فإن الحسنة بعشر أمثالها، وإن ألم العطش في اليوم الحار سيذهب في أول شربة ماء، أما أجره؛ فأرجو الله تعالى أن تناله بل وتسرّ به يوم يقال في الدار الآخرة {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ }(الحاقة:24)، ويوم ينادي الصائمون ليقال لهم ادخلوا من باب الريان.
أيها الحبيب: إن الناظر في أحوال الناس اليوم يجد تفاوتا كبيرا وبونا واسعا بين ما هم عليه وبين ما كان عليه الأسلاف، ففي حين كان حال السلف ما أشرنا إليه سابقا نجد بعض الناس حين يفر من حر الدنيا بالسفر إلى بلاد باردة يظن أنه بسفره للخارج قد خرج عن مراقبة الله.. فتراه يقتحم النار بأفعاله، نظر محرّم.. سماع محرّم.. مراقص، مشروبات محرّمة.. فواحش ـ والعياذ بالله ـ فإلى أولئك الفارين من الحر، والواقعين في أسباب غضب الرب جل جلاله يقال لهم: إلى أين تفرون؟ ومن أي شيء تهربون؟ وأين أنتم من قوله تعالى: { قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} ( التوبة:81).
وهلا تذكرنا يوما كان مقداره خمسين ألف سنة يشتد على الناس فيه الكرب والهول، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بين حال الناس في هذا اليوم فقال: " تدنو الشمس يوم القيامة من الخلق ، حتى تكون منهم كمقدار ميل ، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق ، فمنهم من يكون إلى كعبيه ، ومنهم من يكون إلى ركبتيه ، ومنهم من يكون إلى حقويه ، ومنهم من يلجمه العرق إلجاما".
إن الأسلاف رضي الله عنهم خرجوا من الجزيرة لكن في جهاد ودعوة ونشر الدين في أرجاء الدنيا، فهل كان خروجك كذلك؟.
إن الجهاد الذي نطالبك به، لا يحتاج إلى حمل السلاح الثقيل ! ولا يحتاج إلى خبرة بأساليب الحرب! بل هو جهاد، بالقدوة الحسنة التي تترجمها بأخلاق الإسلام، والبعد عن المحرمات، وجهاد بالكلمة الطيبة، في دعوة من تلاقيه من الناس ـ في أي أرض تذهب إليها ـ مسلماً كان أم كافراً، كل حسب ما يناسبه.
فإن لم تكن تحسن هذا فهل تعجز عن حمل كتيبات صغيرات بلغات القوم الذين تسافر لبلادهم؟!.
حري بنا ان نستحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم : " اتقوا النار ولو بشق تمرة ".
وقوله صلى الله عليه وسلم لي ولك في شخص علي بن أبي طالب رضي الله عن: "فوالله لأن يُهدى بك رجلٌ واحد خير لك من حُمْرِ النَّعم".
وفقنا الله وإياكم لكل خير ووقانا وإياكم حر النار، وهدانا وإياكم وهدى بنا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
من قراءاتي لليوم
" أميرة القلوب ...