ولهذا كان من عَطاء الله تعالى لخلْقه، ومن منِّه وكرمه عليهم، أن نظَّم لهم، وفرض عليهم خمسة مواعيد في اليوم والليلة؛ لتأكيد الصلة به، تحفظهم على تباعُد فتراتها من الضياع سحابة نهارهم، كما حثَّهم على الاستزادة من هذه الصلوات تنفُّلاً في الليل، صلاة وصيامًا وحجًّا، وإلى ذلك يشير الله تعالى على لسانِ نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -:
((مَن عادى لِي وليًّا، فقد آذنته بالحرب، وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضتُه عليه، وما يزال عبدي يتقَرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصرَه الذي يبصر به، ويدَه التي يبطش بها، ورجلَه التي يمشي بها، وإن سألَني لأعطينه، ولإن استعاذ بي لأعيذنه))؛ رواه البخاري في صحيحه.
قارب حب الله ورسوله
وهو قارب النجاة من الغرَق في بحر حبِّ الدنيا، والتعلُّق بحطامها، واللهث وراء مُتَعِها وشهواتها، فالذي تعلَّق قلبُه بالله، لا يطغى عليه حب ما عداه، وإذا أحب أحب في الله، سواء أكان حبًّا لأخ، أو زوج، أو ولد، أو لأيِّ إنسان من الناس؛ ولقد كان من أدعية الرسول - صلى الله عليه وسلم -:
((اللهم إني أسألك حبَّك، وحبَّ مَن يحبُّك، وحبَّ عمَل يُقربني إلى حبِّك)).
وإن من مُقتضيات حب الإنسان لربِّه انشغالَه به، وتلَذُّذه بعبادته، وتلهُّفه إلى مناجاته، وإن حب الرسول - صلى الله عليه وسلم - يجب أن يدفع إلى تحرِّي سنَّته، وإلى الالتزام بشريعته، وإلى العيش معه - صلى الله عليه وسلم - في عسره ويسره، في حياته الخاصة والعامة، وإلى الاقتداء به؛ امتثالاً لقول الله تعالى:
لقد كان لكم في رسول الله اسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الاخر وذكر الله كثيرا
إنَّ حبَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - يجب أن يكون لدى المؤمن أقوى من حبِّ الأهل والولد والناس أجمعين، وصدق الله تعالى حيث يقول: قل ان كان أباؤكم وأبناؤكم واخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم واموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتي يأتي الله بأمره والله لايهدي القوم الفاسقين [التوبة: 24].
قارب الخوف من الله
وهو قارب النجاة من الغرق في بحر الجبن، والخوف، والمعاصي، والآثام؛ كان قدوتنا الأول - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((أنا أخوفكم لله))؛ البخاري - ويقول: ((والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له))؛ البخاري.
فالذي يخاف الله تعالى يتقي سخطه، ويخشى عذابه، ويتحاشَى الوقوع في محارمه، والذي يخاف الله تعالى يقذف الله في قلبه الجرأة، والشجاعة، والعزة، فلا يجبن عند لقاء العدو، ولا يتهَيَّب عند مُواجهة الطغاة، ولا يستحيي من الصدع بالحق، والذي يخالف الله تعالى يستديم مراقبته له، وحذره من التفريط في جنبه، ولا يأمن مكره؛ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا القَوْمُ الخَاسِرُونَ[الأعراف: 99].
ولشدة الخوف من الله تعالى؛ كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لو تعلمون ما أعلم، لضحكتم قليلاً، ولبَكَيْتم كثيرًا)) .
وروي أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -كان يسقط من الخوف مغشيًّا عليه، إذا سمع آية من القرآن.
وسُئل ابن عباس - رضي الله عنهما - عن الخائفين، فقال: قلوبهم بالخوف وجلة، وأعينهم باكية، يقولون: كيف نفرح، والموت من ورائنا، والقبر من أمامنا، والقيامة موعدنا، وعلى جهنم طريقنا، وبين يدي الله ربنا موقفنا؟!
قارب مراقبة الله تعالى
وهو قارب النجاة من الوقوع في الزلل، والعثرات، والانحرافات، وهو يجعل المسلم حاضر القلب، يستهدي بالله لا بهواه، ومراقبة الله تعالى تجعل المؤمن يستحضر تلك العين التي تراقبه في شتَّى أحواله وأعماله، وفي كل أقواله وأفعاله، بل وفي هواجسِه ومشاعرِه، كما يستحضر عظمة صاحب تلك العين - عز وجل - الذي لا تخفى عليه خافية؛
(الم ترى أن الله يعلم مافي السماوات ومافي الارض مايكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا
خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ )[لمجادلة: 7].
وإن مراقبة الله تعالى لكل شيء لَهُو أمر هائل وعظيم، فكيف ما بعدها من محاسبة دقيقة، وقضاء، وجزاء على الأعمال؟!
واعلم - يا أخي المسلم - أنَّ الأمورَ ثلاثةٌ:
الأول: أمر استبان رشده، فاتَّبعْه.
الثاني: أمر استبان غيُّه، فاجتنبْه.
الثالث: أمر أَشْكَل عليك، فاسأل عنه.
ومراقبة الله تعالى تتأَكَّد في النفس وتتعمَّق، مع تزايُد الشعور بقُرْب الله من الإنسان؛
(أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون)( [الزُّخرف: 80].
وقد روي أنَّ رجلاً جاء إلى إبراهيم بن آدهم، فقال له: يا أبا إسحاق إني مسرف على نفسي، فاعرض عليَّ ما يكون لها، زاجرًا، ومستنفذًا لقلبي،
قال: إن قبلت خمس خصال، وقدرت عليها، لم تضرَّك ولم توبقك لذة،
قال: هات يا أبا إسحاق،
فقال: أما الأولى:
إذا أردت أن تعصي الله - عز وجل - فلا تأكل رزقه،
قال: فمن أين آكل، وكل ما في الأرض من رزقه؟!
قال: يا هذا، أفيحسن أن تأكل رزقه وتعصيه؟!
قال: لا، هات الثانية،
قال: إذا أردت أن تعصيه فلا تسكن شيئًا من بلاده،
قال الرجل: هذه أعظم من الأولى، فإذا كان المشرق والمغرب، وما بينهما له، فأين أسكن؟!
قال: يا هذا، أفيحسن أن تأكل رزقه، وتسكن بلاده، وتعصيه؟!
قال: لا، هات الثالثة،
قال: إذا أردت أن تعصيه، وأنت تأكل رزقه وفي بلاده، فانظر موضعًا لا يراك فيه مبارزًا له، فاعصه فيه،
قال: يا إبراهيم، كيف هذا، وهو مطلع على ما في السرائر؟!
قال: يا هذا، أفيحسن أن تأكل رزقه، وتسكن بلاده، وتعصيه، وهو يراك، ويرى ما تجاهر به؟!
قال: لا، هات الرابعة،
قال: إذا جاءك ملك الموت ليقبض روحك،
فقل له: أخِّرني حتى أتوب توبة نصوحًا، واعمل لله عملاً صالحًا،
قال: لا يقبل مني،
قال: يا هذا، أفأنت إذا لم تقدر أن تدفع عنك الموت لتتوب، وتعلم أنه إذا جاءك، لم يمكن تأخيره، فكيف ترجو وجه الخلاص؟!
قال: هات الخامسة،
قال: إذا جاءتك الزبانية يوم القيامة؛ ليأخذوك إلى النار، فلا تذهب معهم،
قال: لا يدعونني، ولا يقبلون مني،
قال: فكيف ترجو النجاة إذًا؟!
قال الرجل: يا إبراهيم حسبي، حسبي، أنا أستغفر الله، وأتوب إليه، ولزمه في العبادة حتى فرَّق الموت بينهما.