د.عدنان محمد أمامة
في صحيح الجامع عن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: يأتي على الناس زمان الصابر فيه على دينه كالقابض على الجمر.
وفي صحيح الجامع أيضا عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن من ورائكم زمان صبر للمتمسك فيه أجر خمسين شهيدا منكم.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء.
وفي السلسلة الصحيحة عن سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباَ كما بدأ، فطوبى للغرباء »، قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: «الذين يَصلُحون إذا فسد الناس» وفي رواية أخرى في الصحيحة، قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: «ناس صالحون قليل في ناس سوء كثير، ومن يعصيهم أكثر ممن يطيعهم ».
ما أحرانا ونحن في زمان اشتدت فيه غربة الدين أن نتجول في رياض هذه الأحاديث النبوية الشريفة ونتلمس منها النور الهادي وسط دياجير الظلام، ونقف على جملة من الدروس والفوائد التي احتوتها هذه الأحاديث، والتي منها:
1- تحقق نبوءة النبي - صلى الله عليه وسلم -، إذ قد تحقق ما أخبر عنه تحققا بينا لا خفاء فيه فقد بدأ الدين غريبا ثم ظهر وعلا ثم ها نحن نشد غربته الثانية بأجلى صورها.
2- تشير الأحاديث إلى سنة إلهية ثابتة، وهي أن: أتباع الحق على مر الزمان هم القلة القليلة وأتباع الباطل هم الكثرة الكاثرة، قال - تعالى -: (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله) فالواجب على المسلم أن لا يغتر بالكثرة وأن لا يستوحش من القلة بل يتمسك بالحق حيث كان وعلى أي وصف كان أهله.
3- في الأحاديث تأصيل لمبدأ أن عظم الأجر مع عظم البلاء الذي أكدته نصوص كثيرة، وفيها بشارة عظيمة لمن يثبته الله على الدين، وهو مقتضى عدل الله وفضله. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: "ولا يقتضي هذا أنه إذا صار غريبًا أي الإسلام أن المتمسك به يكون في شر، بل هو أسعد الناس؛ كما قال في تمام الحديث: ((فطوبى للغرباء)). وطوبى من الطيب؛ قال - تعالى -: (طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنَ مَآبٍ) [الرعد: 29] فإنه يكون من جنس السابقين الأولين الذين اتبعوه لما كان غريبًا وهم أسعد الناس.
أما في الآخرة، فهم أعلى الناس درجة بعد الأنبياء - عليهم السلام -.
وأما في الدنيا، فقد قال - تعالى -: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)[الأنفال: 64]. أي أن الله حسبك وحسب متبعك. وقال - تعالى -: (إِنَّ وَلِيِّيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ)[الأعراف: 196]، وقال - تعالى -: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) [الزمر: 36]، وقال: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) [الطلاق: 2، 3]، فالمسلم المتبع للرسول، الله - تعالى - حسبه وكافيه وهو وليه حيث كان ومتى كان".
4- الحكمة الإلهية من ابتلاء المؤمنين بالغربة ظاهرة بينة وذلك ليميز الله الخبيث من الطيب وليعرف الصادق من الكاذب ويتبين المؤمن من المنافق، ويتساقط الأدعياء وأهل الباطل ويثبت أهل الحق، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع أحدهم دينه بعرض من الدنيا قليل)، ولولا الفتن والابتلاءات لما انكشف هؤلاء.
5- جاء وصف الغربة في الأحاديث عاما ليشمل كافة أنواع الغربة، غربة في الالتزام بأحكام الإسلام، وغربة في العقيدة، وغربة في الأخلاق والسلوك، وغربة في المفاهيم والتصورات، وغربة في التقاليد والعادات.
قال ابن القيم: "فهؤلاء هم الغرباء الممدوحون المغبوطون، ولقلّتهم في الناس جداً سُمُّوا غرباء، فإن أكثر الناس على غير هذه الصفات. فأهل الإسلام في الناس غرباء، والمؤمنون في أهل الإسلام غرباء، وأهل العلم في المؤمنين غرباء، وأهل السنة -الذين يميزونها من الأهواء والبدع- منهم غرباء، والداعون إليها الصابرون على أذى المخالفين هم أشد هؤلاء غربة. ولكن هؤلاء هم أهل الله حقاً، فلا غربة عليهم، وإنما غربتهم بين الأكثرين".
وأقسى أنواع الغربة غربة الإسلام عند كثير من المتصدرين للدعوة والتعليم الشرعي حيث جعلوا من علمهم الشرعي شبكة لاصطياد المال والجاه و ليحظى المسلم بشرف الغربة لابد أن يتصف بصفات أهلها، ومن ذلك:
ما ذكره ابن القيم حيث قال:
أ- "ومن صفات هؤلاء الغرباء -الذين غبطهم النبي - صلى الله عليه وسلم - التمسك بالسنة إذا رغب عنها الناس وترك ما أحدثوه، وإن كان هو المعروف عندهم، وتجريد التوحيد وإن أنكر ذلك أكثر الناس، وترك الانتساب إلى أحد غير الله ورسوله، لا شيخ، ولا طريقة، ولا مذهب، ولا طائفة. بل هؤلاء الغرباء منتسبون إلى الله بالعبودية له وحده، وإلى رسوله بالاتباع لما جاء به وحده. وهؤلاء هم القابضون على الجمر حقاً وأكثر الناس، بل كلهم لائم لهم. فلغربتهم بين هذا الخلق: يعدونهم أهل شذوذ وبدعة ومفارقة للسواد الأعظم".
ب- ومن صفاتهم: أنهم يصلحون أنفسهم عند فساد الناس، ويصلحون ما أفسد الناس من السنة والدين وينهون عن الفساد في الأرض، وهي صفة الغرباء في كل زمان ومكان، قال - تعالى -: (فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين).
فالله نسأل أن يجعلنا منهم، وأن يوفقنا للاتصاف بصفاتهم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.