عزيزي القارئ، يُمثِّل هذا المقال محاولة لإلقاء الضوء على واحدة من المشكلات النفسية حديثة العهد - نسبيًا - بميدان الطب النفسي، وميدان العلاج النفسي، بقدر ما هي قديمة - أزليَّة - قِدَم الوجود الإنساني، ألا وهي الهَلَع...
ويحضرني هنا ونحن في مقام قبل البَدْء مقولة للفيلسوف الألماني " نتشه "، حيث نحت مفهوم جديد - وإن كان وليد لِرَحِم قديم - عبر مقولته: " عِش في خَطَر "!.
تلك هي القضية المحورية التي تدور حولها حياة مريض اضطراب الهَلَع؛ الخَطَر، العيش في خَطَر دائم؛ وإن كانت دعوة فيلسوفنا " نتشه " تعمل على حث الإنسان على اختيار تلك الحياة الخَطِرة بحُريِّة وإرادة واعية، فإن عزيزنا مَن يعاني مِن اضطراب الهَلَع قد حُمِلَ على العيش في ذلك الخطر دون أدنى إرادة، فهو فاقد القُدرة على الاختيار كُليَّة، بل فاقد القُدرة على فهم وتفسير ما ينتابه من أعراض - جد - مؤلِّمة؛ تلك الأعراض التي - قد - يمَّل منها المحيطين بالمريض مع كثرة تكرارها وافتقادها للأسباب الطبية المقبولة، ما يُشعِر المريض بأنه أصبح حِملًا ثقيلًا غير مرغوب فيه، فيتشرنق على نفسه ويبدأ في الانسحاب التدريجي من الحياة الاجتماعية ويُصبِح أسيرًا لأفكاره السوداوية التي تُغرِقه في دَوّامة الحُزن والخوف والألم والوحدة؛ فتراه أقرب ما يكون لشاعرنا المُفكِّر أبو العلاء المَعرِّي الذي عاش حياته حبيسًا لِظُلّمتين ظُلّمَة العمى وظُلّمَة الخوف والوَحَدة.
هكذا مريض الهَلَع حبيس مخاوفه، لا يجد مخرجًا، غارقًا في أعراضه التي لا تنتهي ولا تنهيه، ينتظر الموت، فأصبح ميّتًا حيًّا!.
ما العلاقة بين: الخوف، القَلَق، والهَلَع؟
إذا تتبعنا اضطراب الهَلَع، أو لاحظنا شخصًا يعاني من هذا الاضطراب، سنجد أنفسنا أمام مجموعة من الأعراض المتداخلة والتي يمكن أن نطلق عليها عِدَّة مُسمَّيات، فأعراض مَرضى اضطراب الهَلَع تبدو وكأنها خوف، أو قَلَق وتوتر؛ وحتمًا مع تصاعدها توشي بأنها نتاجًا لمَرَض عضوي يتصل بالجسد عامة وبالقلب خاصة.
• انفعال الخوف:
تُمثِّل مشاعر الخوف انفعالًا غريزيًا من الانفعالات الرئيسة لدى الإنسان، وبذلك فهو يشبه مشاعر: السعادة، الغيرة، الغضب، الحزن، والشعور بالذنب، وغيرها من المشاعر التي تولِّدها الانفعالات المختلفة.
ويرتبط انفعال الخوف بوظيفة حيوية لدى الإنسان وهي وظيفة البقاء والحفاظ على الحياة، وحماية الإنسان من أي خطر خارجي مُهدِّد لهذا البقاء والأمن؛ ويَحدُث انفعال الخوف - غالباً - كاستجابة لإثارة سلبية مُحدَّدة ومعروفة بالنسبة للشخص الخائف تتمثَّل في موضوع خارجي واقعي، ويعمل انفعال الخوف وفقًا لأسلوب مُبرمَج ضمن نظامنا العصبي؛ حيث تتمثل وظيفة هذا النظام بالجهاز العصبي في حماية الإنسان، وجعله واعيًا بأنه في خطر ما، وأن هناك شيء سيء قد يَحدُث له، لذلك فهو يجعله مستعدًا للتعامل معه.
لذلك فإن الشعور بالخوف شيء طبيعي، بل ومفيد في مواقف كثيرة، وهو بمثابة جرس إنذار ليأخذ الشخص حذره من خطر يُهدِّده، وبذلك يؤدي الخوف وظيفة إيجابية للشخص بإبعاده عن مصدر الخطر والتهديد.
وانفعال الخوف مثل الانفعالات الأخرى قد يكون بسيطًا أو متوسطًا أو شديدًا، ويكون التفاوت في درجة شِدَّة انفعال الخوف وفقًا لطبيعة الموقف الذي يؤدي استثارة انفعال ومشاعر الخوف، وإلى خصائص شخصية الفرد الذي يتعرَّض لهذا الموقف، وكيفية إدراكه وتفسيره لمصدر الخطر المُهدِّد؛ وقد يكون الإحساس بالخوف لفترة قصيرة أو طويلة اعتمادًا على مدى إدراكنا لزوال أو بقاء مصدر الخطر.
• اضطراب القَلَق:
يُمثِّل القَلَق واحد من المشاعر الإنسانية الأساسية مثله مثل الفرح والحزن والخوف، ويعني القَلَق الشعور بالتوتر، والترقُّب لما هو قادم، مع الشعور بالخطر بشكل عام؛ كما يعني عدم الاطمئنان أيضًا.
والقَلَق مفهوم حديث نسبيًا في لغتنا العربية، فلقد استُعمِلت عِدَّة مفاهيم للتعبير عنه مثل: الخوف، الوَجَل وغيرها من المفردات الدالة على حالة التوتر التي تعتري الشخص؛ ولا تخلو حياة الإنسان من شيء من القلق، والتوتر، والخوف؛ لذلك فإن قليلًا من القَلَق لا ضرر فيه لأنه يُحضِّر الإنسان لمواجهة الحياة اليومية ويجعله مستعدًا بشكل أفضل لدرء المخاطر وإتقان تصرفاته و أعماله المتنوعة، فالحياة اليومية تواجهنا بمواقف كثيرة تتطلب من الشخص قدر من الجهد في مواجهتها، ويُعَد القَلَق باعث إيجابي لتحقيق التوافق مع الواقع ومتطلباته.
بينما تكمن المشكلة عند زيادة نسبة القَلَق أو استمراره فترة طويلة، فعندها يُعتبَر القَلَق مرضًا واضطرابًا، لأنه يُعطِّل الإنسان ويرهقه ويجعل حياته اليومية مؤلمة ومزعجة، ويجعل أعصابه مشدودة ومتوترة، كما أن الإحساس بالقَلَق والترقب فترة طويلة يؤدي إلى المزاج السيء والإرهاق واستنزاف الطاقة ونقص الإنتاجية؛ بل قد يؤدي إلى السلبية والعبثية في التصرفات، ويمكننا أن نلمس ذلك في الحضارة الغربية، فعندما قَرَن الفيلسوف الفرنسي " جان بول سارتر " الحُريَّة بالقُدرة على اختيار الأفعال، أكد على أن تلك الحُريَّة يتبعها مُساءلة الشخص على أفعاله ونتائجها، ويكون لتلك المُساءلة الدور الأساس في توليد القَلَق لدى الإنسان، لكنه يكون قَلَقًا بناءً يُحفِّز الشخص ويزيد من درجة اتقانه لأفعاله؛ بينما تحوَّل هذا القَلَق الذي نادى به " سارتر " في الحضارة الغربية إلى قَلَق مَرَضي مع الانحراف الذي حدث لديهم في مفهوم الحُريِّة، ما كان له الدور الفاعل في انتشار الأفكار العبثية واللامعقولية، وبالتالي السلبية والانحلال الذي طال معظم عناصر تلك الحضارة.
• اضطراب الهَلَع:
يتمثَّل اضطراب الهَلَع في مجموعة نوبات متكررة من القَلَق الشديد، لا تُقتصَر على مواقف محدَّدة، ولا يمكن التنبؤ بها، وتتباين أعراضها ومستوى شدتها ومدى استمرارها من شخص إلى آخر، وإن كان القاسم المشترك بين المَرضى في تلك النوبات يتمثَّل في:
* البداية المفاجئة للخفقان.
* ألم الصدر.
* الشعور بالاختناق.
* الدوار، وأحاسيس اللاواقعية أو الشعور بالانفصال عن الواقع، مع سيطرة
الخوف من الموت أو فقدان التحكم في النفس أو الجنون.
• خصائص نوبة الهَلَع:
بداية يجب أن نُميِّز بين نوبات الهَلَع باعتبارها عَرَض يَظهَر في عدد من الاضطرابات النفسية والأمراض العضوية، وبين نوبة الهَلَع باعتبارها عَرَض أساس من أعراض اضطراب الهَلَع؛ فنوبة الهَلَع تَظهَر في اضطرابات القَلَق ومنها الرُهاب والوسواس، كما تَظهَر في اضطراب الاكتئاب، وإدمان المُخدِّرات؛ كما تَظهَر نوبات الهَلَع مع عدد من الأمراض العضوية منها: مرض الربو الشُعبي، الذبحة الصدرية، أمراض القلب، خلل هرمون الغُدّة الدرقية والجار درقية، ونوبات الصَرَع؛ وتُعتَبر نوبات الهَلَع في هذه الحالات مشكلة في ذاتها، ويعاني منها حوالي 15% من أفراد المجتمع.
لكن فيما يتصل بنوبة الهَلَع الناتجة عن اضطراب الهَلَع فإنها تتميَّز بعدد من الخصائص التي تُمثِّل محكات تشخيصية وهي:
• تتميز نوبة الهَلَع بأنها مفاجئة، غير متوقَّعة، ويَشعُر المريض فيها بالتهديد.
• تكون مُدَّة النوبة قصيرة، فتستمر من عشرين إلى ثلاثين دقيقة.
• تدفع النوبة المريض إلى تَجنُّب المواقف التي تحدُث فيها، فإذا حدثت هذه النوبة في موقف مُعيَّن وليكن في الشارع، أو في وسيلة مواصلات مثلًا، فإن المريض يتجنب هذه المواقف مستقبلًا، وربما يمكث في البيت ولا يغادره إلا للضرورة القصوى.
• نوبات الهَلَع المتكررة وغير القابلة للتنبؤ قد تتسبب في خوف المريض من البقاء وحده، أو الخروج إلى أماكن عامة، والبحث دائمًا عن مكان آمن مع أشخاص يمكنه الاعتماد عليهم إذا تكرر حدوث النوبة.
• هل تختلف نوبات الهَلَع؟:
يتم تحديد نوع نوبة الهَلَع من خلال الموقف الذي تظهر فيه، وطبيعة المثيرات المُحرِّكة لها؛ وهناك نوعان لنوبات الهَلَع:
1. نوبات الهَلَع غير المتوقَعة: لا توجَد مؤشِرات على أنها ستَحدُث، حيث لا ترتبط نوبة الهَلَع بمثيرات موقفية، فهي تظهَر دون مُقدِّمات.
2. نوبات الهَلَع المتوقَعة والمتعلِّقة بموقِف: توجَد مؤشِرات على أنها ستَحدُث، حيث تَظهر نوبة الهَلَع غالبًا وبنمط ثابت فور التعرُّض لمثير موقفي أو توقع حدوثه.
• هل لاضطراب الهَلَع علاج؟:
بالرغم من الغموض الذي يُحيط باضطراب الهَلَع، وبالرغم من صعوبة التعامل مع مرضاه، إلا إنه مع التقدم في ميدان الطب النفسي وميدان العلاج النفسي تم التوصل إلى حقيقة هذا الاضطراب ومعرفة خصائصه وأعراضه، ومعرفة الأسباب الكامنة خلفه، وساعد ذلك على تحقيق قدر - ليس بالقليل - من النجاحات في التعامل معه كاضطراب نفسي.
ويتمثَّل علاج اضطراب الهَلَع في منحيين: منحى دوائي، ومنحى نفسي، وبيَّنت التجارب أن الدمج بين المنحيين يساعد المَرضَى بشكل ملموس؛ ويمكننا عرض المنحيين كالآتي:
• العلاج الدوائي:
يعتمد هذا المنحى على استخدام الأدوية النفسية، ويحقق هذا المنحى تَقدُّم ملموس مع الكثير من الحالات؛ خاصة بعد ما شهدته الأدوية النفسية - في الفترة الأخيرة - مِن تَقدُّم، مثل أدوية المهدئات والأدوية المضادة للاكتئاب، ولكن يجب أن يكون تعاطي هذه الأدوية تحت إشراف طبيب نفسي، خاصة وأن بعضها يَنتُج عنه اعتمادًا نفسيًا عضويًا، أي أنها تُحدِث حالة إدمانية للمريض على العقار.
وتعمل تلك الأدوية النفسية على زيادة مستويات مادة السيروتونين، كما تعمل على ضبط عمل الجهاز العصبي المركزي والجهاز العصبي المستقل، بحيث لا يستثار بنفس الحِدَّة التي تُسبِّب الهَلَع.
كما يجب أن يلتزم المريض بتناول الجرعة الدوائية بشكل منتظم - وفقًا لوصفة الطبيب - حتى وإن زالت الأعراض وشعَرَ المريض بالتحسن، حيث إن مُدَّة العلاج لا تقل عن تسعة أشهر وقد تصل إلى العام؛ وربما تساءل مَريض عن الدافع وراء إصرار طبيبه المُعالِج على استمراره في تعاطي الدواء النفسي بالرغم من توقُّف النوبات عن الحدوث، ويمكن تفسير ذلك الإصرار على الاستمرار في تعاطي الدواء إلى ارتفاع مُعدَّلات الانتكاسة بين المَرضى المُتعافين من اضطراب الهَلَع، والمقصود بالمريض المنتكس هو ذلك المريض الذي عاوده المرض بنوباته وأعراضها بعد فترة انقطاع، وهو بذلك يشبه المُدمن المتعاف المنتكس إلى حد كبير، وللأسف تكون عودة النوباتالهَلَعية شرسة جدًا، وتصل نسبة المرضى المنتكسين في اضطراب الهَلَع حوالي 60%، حيث يعتقد المريض أن توقف النوبات عن الحدوث يعني الشفاء، لكنه ليس شفاءً، بل يمكننا أن نعتبره حالة هُدنة يقوم المَرَض فيها بشحن طاقته كي يعاود الهجوم.
• العلاج النفسي :
هناك العديد من الأساليب العلاجية النفسية المتباينة في المنطلقات النظرية والفنيات العلاجية والأهداف التي تسعى إلى تحقيقها، تم استخدامها مع مَرضى اضطراب الهَلَع؛ وإن كان أكثرها نجاحًا وتحقيقًا لنتائج ملموسة هو العلاج المعرفي السلوكي بفنياته المختلفة، وتعتمد العملية العلاجية لمرضى اضطراب الهَلَع وفقًا لفنيات العلاج المعرفي السلوكي على عِدَّة محاور، كالآتي:
الجلسات العلاجية:
تهدف إلى تنظيم البنية المعرفية للمريض، ويتم فيها استبدال أفكار المريض اللاعقلانية بأفكار أخرى أكثر عقلانية فيما يتصل بالاضطراب وطبيعته ومدى إمكانية الشفاء منه؛ كما يتم فيها تنفيذ بعض التدريبات ومنها على سبيل المثال: التعرض التَخيُلي، ويتم بافتراض حدوث النوبة الهَلَعية وما يصاحبها من أعراض وأفكار وأحاسيس؛ كما يتم فيها تكليف المريض ببعض الواجبات المنزلية.
• 1. تدريبات التعرُّض :
وتتم في المواقف الفعلية التي تعمل على استثارة الجهاز العصبي للمريض، وتساعد على حدوث نوبة الهَلَع وظهور الأعراض، ويتم التدريب على التعرُّض والمواجهة بمعاونة المُعالِج النفسي، أو يكون المريض بمفرده في بيئته الطبيعية؛ وبهذا يختلف التعرُّض الفعلي عن التعرُّض التخيلي.
• 2. العلاج التكامُلي المؤسَّسي:
قد يجد الطبيب أو المُعالِج النفسي ضرورة من المزج بين العلاج الدوائي والعلاج النفسي؛ فقد يكون المريض في حاجة لاستكمال رحلته العلاجية داخل مؤسَّسة علاجية، لذلك يتم إلحاقه بمستشفى، حيث يتم استكمال العملية العلاجية من خلال الدواء والعلاج النفسي.
* د. محمد فتحي