إن التفسير التاريخي لأي حدث لا يمكن أن يأتي من جانب واحد، بل غالبا ما يتضمن كل مذاهب أو نظريات التفسير التاريخي وأبعاده (الديني، المادي الاقتصادي، الميتافيزيقي، البيولوجي العضوي، الوضعي والتحدي والاستجابة). هذه المذاهب جعلت التاريخ يخرج من طور الوصف إلى طور تجميع أشتات الحوادث المتباينة والمتباعدة زمانا ومكانا، وتنسيق الظواهر الاجتماعية وتحليلها؛ لأن التاريخ هو مسرح النشاط الإنساني، غير أن النشاط البشري بما في ذلك أعمال الرجال العظام ليس مجرد وسيلة لتحقيق غاية لا يعرف هؤلاء من أمرها شيئا، ونظرة عابرة إلى التاريخ العالمي تبين لنا ألوانا من الثقافات والحضارات والدول والأفراد، ومع أن التاريخ يدرس الماضي إلا أن البحث الفلسفي في مجال التاريخ يركز الاهتمام على الحاضر، فلابد للمؤرخ أن يعلم أن للتاريخ ظاهرا وباطنا، ظاهره أحداث ووقائع دون هدف، وباطنه فعل الروح التي تمثل نشاط الأفراد وقيام الدول، والتي تمثل وحدة الدراسة التاريخية، أي تعبر عن إرادة الروح في مجال النشاط الفكري من فلسفة وفن وعلم وقانون وأخلاق، ويمثل الدين بين النشاط الإنساني أسماها وأكملها؛ لأنه يدعو إلى نبذ الأهواء والمصالح الشخصية، وتجاوز نطاق الفردية والذاتية، فهو أقرب صورة لتحقيق أهداف الدولة. فقد رأيت أن أسجل هنا مجموعة من المبادئ كأساس موضوعي يستند إليها أصحاب صناعة وفن التاريخ عند محاولة كتابة التاريخ العربي والإسلامي، ومن أجل تقديم قراءة جديدة لتاريخ العالم؛ لأن الدور الذي حبا الله به العرب لم يكن في معزل عن دورهم العالمي والإنساني الشامل، دور الإسلام الذي شاء الله أن يكون للعرب فيه نصيبهم الأساس نبيا ولغة ومهبط وحي وإسراءً ورواداً أوائل.. إنسانية ورحمة وعدالة كونية واحدة، لقد كان الإسلام الحنيف نقطة تحول وانعطاف شاملين في الحياة ومعطياتها ومختلف جوانبها العربية وفي العالم.. هذا ما نقر به ونعتز به، وفي الوقت نفسه لم يكن تاريخنا قبل ذلك منقطع الدور في جوانبه ومعطياته ونواحيه وغاياته، يقول تعالى: ((نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ)) الشعراء(193، 194، 195). ((وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)) التوبة، 99. وبذلك لم تكن مصادفة كون لغة القرآن الكريم لغة الإسلام هي اللغة العربية، فالعربية هي لغة الأدب والمعرفة والتجارة والحضارة.. الخ، والعربية وما دل عليه حكمة حكمائها وإيمان بعضهم دليل على ذلك، فقد كان يحمل الإسلام في مقدماتها التطور اللائق الذي حققته لغة العرب "العربية" وجاء القرآن الكريم ليعلن حداً أقصى من الإعجاز والبلاغة لهذه اللغة.. وما كان القرآن ليأتي بلغة قوم متخلفة أو متخلفين (غلف) ولو كان الأمر كذلك لتكررت تجربة موسى وخلفائه، وينبغي أن لا تنسينا الأيام أهمية أسواق العرب الثقافية وشعرائهم وتجارتهم ومطامع الآخرين بهم وسواها دلائل ماثلة على مكانة وأهمية العرب قبل الإسلام، تلك الأهمية التي تبلورت وازدهرت وأخذت سماتها بالإسلام الحنيف. وفيما يلي أهم هذه المبادئ والأسس الموضوعية التي بجب مراعاتها عند كتابة التاريخ العربي والإسلامي: 1- الوثائق والمخطوطات والمدونات والكتابات التي تناقض الحقيقة التاريخية، وعلى ما بينها من تباين واختلاف، مصدرها غالبا واحد مما يلي: أ - من وضع كتاب ومؤرخي المعارضة من فرق أو حركات انشقاق مذهبية أو فكرية أو فلسفية ومثل هؤلاء غير منزهين عن الأغراض والغايات ما نبل منه أو ما سفلت مراميه. ب- من وضع أعداء العرب- أحيانا- على مدى العصور من عبريين ورومان وبيزنطيين وفرس وأحباش ويونانيين هيلينيين. ومن بعدهم التثار والمغول والصليبيين والسلاجقة والبويهيين والأتراك وفي العصر الحديث الاستعمار الغربي من فرنسيين وأسبان وطليان وبرتغاليين وهولنديين وأمريكيين وإسرائيليين، وقد شوه هؤلاء -غالبا- تاريخنا بالأكاذيب. ج- السياسات التي كانت سائدة في التاريخ العربي الإسلامي قد تكون بعضها منحازة، لا ترى غير ما يراه الحاكم خاصة السلاطين والأمراء والولاة الذين كانوا يشجعون الانفصال مثل الطاهريين والصفاريين والبويهيين والغزنويين والأتراك والسلاجقة والخوارزميين والمماليك، أو من الوزراء وقادة الجيوش والقضاة، وهي إن صدقت أحيانا، فإنما تعبر بالدرجة الأساس عن رؤيتهم للأمور. د- وأخيراً من وضع المستشرقين في العصر الحديث، الذين مارسوا دورهم في التشويه على الرغم مما امتلأت به بطون كتبهم من مظاهر الموضوعية وكثرة المعلومات،ونادرا ما نجد في تلك المصادر لكل ما سبق الموضوعية النزيهة، التي تؤرخ للعرب في عصورهم المختلفة، دون أن تنزل به إلى مستويات المبالغة في عظمة الواقع والوقائع أو دون أن تنسخ الماضي بكل ما فيه، أو دون أن تنسبه لفريق دون آخر، أو هي دون أي مظهر أو جوهر من أسس التاريخ العلمي الموضوعي. زلت أقدام كثير من الإثبات والمؤرخين الحفاظ في مثل هذه الأحاديث والآراء وعلقت أفكارهم، ونقلها عنهم الكافة من أصحاب الغفلة عن القياس، وتلقوها هم أيضا كذلك من غير بحث ولا روية واندرجت في سجلاتهم حتى صار فن التاريخ واهيا مختلطا وناظره مرتبكا. فلابد من العودة إلى المصادر المنزهة لاصطفاء الحقيقة التاريخية، لأجل تاريخ أجيالنا الراهنة والقادمة، وبما يحول دون طمس الحقائق. 2 - إن صياغة موضوعية واعية جديدة لتاريخنا تقتضي العودة إلى كل الوثائق والمخطوطات والكتابات والحفريات القائمة والمقبلة سواء ما ظهر منها على يد الصديق وغير الصديق، المنصف منها وغير المنصف، الموضوعي وغير الموضوعي، القديم منه والمعاصر، المنقول منه والثابت من شواهد وآثار تاريخية قبل وبعد الإسلام. 3 - ليس كل ما نختلف معه لا يحمل شيئاً إيجابياً، بل إن بعض ما يحمله خصومنا لنا من عداوة وتشويه للتاريخ وقدرتنا على كشف ذلك ومعالجته علمياً،دليل على حضارتنا القوية الواثقة القادرة على الاستمرار والارتقاء، وكذلك على مصداقية تاريخنا الذي نحن مقبلون على صياغته. 4 - إن خصوصية حضارتنا من حيث: أ- عراقتها فبل الإسلام وبعده. ب- شموليتها لنواح عدة: دينية، اجتماعية، اقتصادية، سياسية وعسكرية. ج- إنسانيتها. د- فكرها (أدبا وفلسفة وحكمة) وقدرتها على استيعاب حضارات أقوام أخرى صديقة ومعادية، فضلا عن مركزيتها في موقع الحدث التاريخي والجغرافي، وثرواتها واتساع شواطئها ومضايقها، وتعدد جغرافيتها ومنتجاتها، وتصاعد هذه المركزية على مدى التاريخ، كل ذلك أدى إلى صعودها العام في إطار حركة التاريخ رغم ما لاقته من كوارث ومطامع. 5 - إن في تاريخنا جوانب مهمة تعتبر دروسا مهمة سواء أكانت إيجابية أم سلبية، فهي ليس للتباهي فحسب أو للبكاء على أطلاله، ولا ينبغي تجاهل هذه الجوانب أو الالتفاف عليها، فالأمة عندما تبلغ حضارتها مدارج النضج تمارس الثقة والنقد الذاتي، وتضع الأمور في إطارها الصحيح. 6- إن تزوير التاريخ والإلتفاف على الحقائق وتشويه موقف الغير ضروب من التخلف وعدم الثقة وبدائية الحضارة التي ينتمي إليها المؤلف. 7 - تأثر بعض المؤرخين والمفكرين والأدباء العرب بوهج الحضارة الغربية وخداعها وصلفها وزيفها، وفي المقابل فقد درج بعض المؤرخين والمفكرين والكتاب والأدباء العرب على رفض ذواتهم وتاريخهم وحضارتهم شعوراً بالتخلف واليأس، الأمر الذي عكس حقائق التاريخ. 8- لم يستوعب بعض المؤرخين الفكر التقدمي العالمي، أو منهم من تخفى خلفه من الشعوبيين، فأساؤوا للعرب والإسلام فكراً وتاريخاً بطريقة غير مباشرة. غافلين عن تاريخ حضارة شاملة: شعوباً وحكاماً وأيديولوجيا(الإسلام) مر بصعود وهبوط وبمراحل مد وجزر، وتربصت له أطماع الطامعين ومطامحهم فأعاقوا تقدمه أحياناً كثيرة. 9- لكي لا يتشوه مشروع تقديم قراءة جديدة لتاريخنا لابد أن يكون متحررا من العقد والأوهام، وكذلك أن لا يخدم أهداف نظام أو مجموعة أنظمة أو أفكارا ثابتة ساكنة أو قناعات مذهبية، الأمر الذي يساعد على تحقيق موضوعية البحث التاريخي ودقته وعلميته، وبهذا سوف تسقط كل التأثيرات السلبية المحرفة لتاريخنا القديم والراهن. 10- وليعلم هؤلاء أنه يوجد الآن حضارات ودول عظمى لم تكن موجودة على خارطة البشرية قبل قرون ومع ذلك فقد ازدهرت الآن، بالرغم من أن بعضها لا يحمل تاريخاً أي تاريخ، عظيماً أو غير ذلك، وأن دولاً أخرى تعد اليوم من أكثر دول العالم تقدماً بمقاييس العصر الحضارية المادية، كانت أقوامها من أكلة لحوم البشر قبل قرون قليلة. 11- إن تاريخنا يتعرض- كوطننا العربي- منذ أقدم العصور للاحتلال بشتى الذرائع التاريخية والدينية وسواها، لكن جوهر المطامع هو المصالح، الكل يعلم أن المنطقة العربية كانت ولا زالت مطمع الغزاة من كل لون وصنف لما للمنطقة من أهمية بالغة في خطوط التجارة العالمية والملاحة فضلاً عن منتجاتها وخيراتها بفضل تعددية المناخ والطبيعة والأنهر الكبرى واتساع الشواطئ على محيطات وبحار مهمة، ومع الأيام كانت المنطقة تزداد أهمية، كونها مهبط الديانات. 12 - لم يؤثر التطور العلمي الكبير على أهمية المنطقة على مر التاريخ، بل زادها ازدهارا، بعد أن أصبحت القوة هي الطاقة؛ والطاقة النفط والفوسفات واليد العاملة والسدود الكبرى ومشاريع تحويل الطبيعة وخطوط الملاحة الجوية وقناة السويس والمضايق. لذلك نرى تعدد الحروب والتي تعكس لنا صورة الأطماع المستمرة على مدى التاريخ، والتي تتفاقم الآن، إن استمرار الأطماع لم يسمح بصعود متصل للحضارة العربية والإسلامية وشوه جوانب ومراحل مهمة من تاريخنا وأفقدنا أجزاء منه كمدونات ووثائق وموروثات حضارية وأثرية وحرفية وفكرية. فلا بد لنا أن نعلم أن التاريخ ينقسم إلى ثلاثة أنواع هي: (أ) التاريخ الأصلي والمقصود به ذلك التاريخ الذي كتبه المؤرخ وهو يقيس أصل الأحداث ومنبعها، وينقل ما يراه أمامه أو ما يسمعه من الآخرين كما هو. (ب) التاريخ النظري، هو ذلك التاريخ الذي لا يعيش المؤرخ أحداثه التي يرويها، وإنما تجاوز العصر الذي يعيش فيه لكي يؤرخ لعصر آخر، فيقوم بجمع المادة التاريخية وتصنيفها، ويتفرع هذا النوع إلى أربعة فروع أساسية: الأول يقترب من التاريخ الأصلي إذا اقتصر غرض المؤرخ على سرد الأخبار التاريخية لبلد أو شعب من الشعوب. والفرع الثاني ما يسمى بالتاريخ العملي الذي يهتم باستخلاص العبر والعظات والقيم والدروس الأخلاقية من أحداث الماضي والتي يمكن الاستفادة منها في العصر الحاضر. أما الفرع الثالث من التاريخ النظري فهو التاريخ النقدي الذي يقوم بدراسة الروايات المختلفة ونقدها وتبين مدى حقيقتها. ويأتي الفرع الرابع من التاريخ النظري يحمل الخاصتين الجزئية والعمومية، فهو جزئي لأنه لا يتحدث عن تاريخ الإنسان بما هو إنسان، وإنما عن جزء من التاريخ مثل القانون أو الفن أو الدين لكنه يحمل صفة العمومية؛ من حيث إنه لا يتحدث عن القانون عند الرومان أو الفن المصري القديم أو الدين في العصور الوسطى، وإنما يتحدث عن القانون بصفة عامة أوالدين منذ بداية التاريخ حتى عصرنا الحاضر. (ج) التاريخ الفلسفي الذي يدرس التاريخ من خلال الفكر؛ لأن التاريخ هو تاريخ الإنسان والفكر جوهري بالنسبة إليه، وفي هذا النوع من التاريخ، الفيلسوف لا يزاحم المؤرخ لأن دوره ينحصر في تفسير أحداث التاريخ ولا يقوم بجمع المعلومات. وأخيرا لعل من المفيد أن نعود إلى ما كتبه ابن خلدون حيث يشترط في صاحب هذا الفن أن يكون عالما بقواعد السياسة وطبائع الموجودات واختلاف الأمم والبقاع والسير والأخلاق والعوائد والنحل والمذاهب وسائر الأحوال و الإحاطة بالحاضر من ذلك، ومماثلة ما بينه وبين الغائب من الوفاق أو ما بينهما من الخلاف، وتعليل المتفق منها والمختلف، والقيام على أصول الدول والملل ومبادئ ظهورها وأسباب حدوثها، ودواعي كونها وأحوال القائمين بها وأخبارهم؛ حتى يكون مستوعبا لأسباب كل خبر، وما عظَّمَ القدماءُ علمَ التاريخ إلا لذلك، حتى انتحله الطبري والبخاري وابن إسحاق من قبلهما وأمثالهم من علماء الأمة، وعلى المؤرخ الفاضل أن لا يصرح بالتجريح لأي زميل له بتهمة الكذب أو الوضع إذا كان قد أخطأ في أمر من الأمور، والأفضل أن ينتقي من الألفاظ أحسنها، إذا أراد الجرح، أو بأدنى تصريح، كذلك لا ينبغي للمؤرخ الفاضل أن يجزم بأمر من الأمور إذا كان هذا يحتمل قولين، فلابد له من الاحتياط والوقوف، إلا أن يستند في حكمه على تأويل صحيح، وكذالك يشترط في أدب المهنة والصناعة والفن أن يكون عارفا بما ينقله من غيره، حتى لا يجزم إلا بما يتحقق منه، فإن لم يحصل على مستند معتمد في الرواية، لم يجز له