بسم الله الرحمن الرحيم القلب اما سلطنة للشيطان او مهبط الملائكة مبدأ الأفعال الخواطر ثم الخاطر يحرك الرغبة والرغبة تحرك العزم والعزم يحرك النية والنية تحرك الأعضاء والخواطر المحركة للرغبة تنقسم إلى ما يدعو إلى الشر أعني إلى ما يضر في العاقبة وإلى ما يدعو إلى الخير أعني إلى ما ينفع في الدار الآخرة، فالخاطر المحمود يسمى إلهاما والخاطر المذموم أعني الداعي إلى الشر يسمى وسواسا. ولأنوار القلب وظلمته سببان مختلفان فسبب الخاطر الداعي إلى الخير يسمى ملكا وسبب الخاطر الداعي إلى الشر يسمى شيطانا واللطف الذي يتهيأ به القلب لقبول إلهام الخير يسمى توفيقا والذي به يتهيأ لقبول وسواس الشيطان يسمى إغواء وخذلانا.
فالقلب متجاذب بين الشيطان والملك، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "في القلب لمتان لمة من الملك إيعاد بالخير وتصديق بالحق فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله سبحانه وليحمد الله ولمة من العدو إيعاد بالشر وتكذيب بالحق ونهي عن الخير فمن وجد ذلك فليستعذ بالله من الشيطان الرجيم ثم تلا قوله تعالى: "الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء". أخرجه الترمذي وحسنه.
والقلب بأصل الفطرة صالح لقبول آثار الملك ولقبول آثار الشيطان صلاحا متساويا ليس يترجح أحدهما على الآخر وإنما يترجح أحد الجانبين باتباع الهوى والإكباب على الشهوات أو الإعراض عنها ومخالفتها فإن اتبع الإنسان مقتضى الغضب والشهوة ظهر تسلط الشيطان بواسطة الهوى وصار القلب عش الشيطان ومعدنه لأن الهوى هو مرعى الشيطان ومرتعه وإن جاهد الشهوات ولم يسلطها على نفسه وتشبه بأخلاق الملائكة عليهم السلام صار قلبه مستقر الملائكة ومهبطهم.
ولما كان لا يخلو قلب عن شهوة وغضب وحرص وطمع وطول أمل إلى غير ذلك من صفات البشرية المتشعبة عن الهوى لم يخل قلب عن أن يكون للشيطان فيه جولان بالوسوسة ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحد إلا وله شيطان قالوا وأنت يا رسول الله قال وأنا إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمر إلا بخير". أخرجه مسلم.
وإنما كان هذا لأن الشيطان لا يتصرف إلا بواسطة الشهوة فمن أعانه الله على شهوته حتى صارت لا تنبسط إلا حيث ينبغي وإلى الحد الذي ينبغي فشهوته لا تدعو إلى الشر فالشيطان المتدرع بها لا يأمر إلا بالخير.
وكلما غلب على القلب ذكر الدنيا بمقتضيات الهوى وجد الشيطان مجالا فوسوس وكلما انصرف القلب إلى ذكر الله تعالى ارتحل الشيطان وضاق مجاله وأقبل الملك وألهم.
والتطارد بين جندي الملائكة والشياطين في معركة القلب دائم إلى أن ينفتح القلب لأحدهما فيستوطن ويستمكن ويكون اجتياز الثاني اختلاسا، وأكثر القلوب قد فتحتها جنود الشياطين وتملكتها فامتلأت بالوساوس الداعية إلى إيثار العاجلة واطراح الآخرة ومبدأ استيلائها اتباع الشهوات والهوى ولا يمكن فتحها بعد ذلك إلا بتخلية القلب عن قوت الشيطان وهو الهوى والشهوات وعمارته بذكر الله تعالى الذي هو مطرح أثر الملائكة.
قال جابر بن عبيدة العدوي: شكوت إلى العلاء بن زياد ما أجد في صدري من الوسوسة فقال إنما مثل ذلك مثل البيت الذي يمر به اللصوص فإن كان فيه شيء عالجوه وإلا مضوا وتركوه يعني أن القلب الخالي عن الهوى لا يدخله الشيطان ولذلك قال الله تعالى: "إن ّعبادي ليس لك عليهم سلطان" فكل من اتبع الهوى فهو عبد الهوى لا عبد الله ولذلك سلط الله عليه الشيطان وقال تعالى: "أفرأيت من اتخذ إلهه هواه" وهو إشارة إلى أن من الهوى إلهه ومعبوده فهو عبد الهوى لا عبد الله ولذلك قال عمرو ابن العاص للنبي صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله حال الشيطان بيني وبين صلاتي وقراءتي فقال: ذلك شيطان يقال له خنزب فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه واتفل على يسارك ثلاثا قال ففعلت ذلك فأذهبه الله عني". رواه مسلم.
ولا يمحو وسوسة الشيطان من القلب إلا ذكر ما سوى ما يوسوس به، لأنّ الشيء لا يعالج إلا بضده، وضد جميع وساوس الشيطان ذكر الله بالاستعاذة والتبري عن الحول والقوة وهو معنى قولك أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وذلك لا يقدر عليه إلا المتقون الغالب عليهم ذكر الله تعالى وإنما الشيطان يطوف عليهم في أوقات الفلتات على سبيل الخلسة، قال الله تعالى: "إنّ الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون".
وقال مجاهد في معنى قول الله تعالى من شر الوسواس الخناس قال هو منبسط على القلب فإذا ذكر الله تعالى خنس وانقبض وإذا غفل انبسط على قلبه فالتطارد بين ذكر الله تعالى ووسوسة الشيطان كالتطارد بين النور والظلام وبين الليل والنهار ولتضادهما قال الله تعالى: "استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله" وقال أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان واضع خرطومه على قلب ابن آدم فإن هو ذكر الله تعالى خنس وإن نسي الله تعالى التقم قلبه" أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب مكايد الشيطان وأبو يعلى الموصلي وابن عدي في الكامل وضعفه.
وكما أن الشهوات ممتزجة بلحم ابن آدم ودمه فسلطنة الشيطان أيضا سارية في لحمه ودمه ومحيطة بالقلب من جوانبه ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم فضيقوا مجاريه بالجوع".
وذلك لأن الجوع يكسر الشهوة ومجرى الشيطان الشهوات ولأجل اكتناف الشهوات للقلب من جوانبه قال الله تعالى إخبارا عن إبليس: "لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم".
وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان قعد لابن آدم بطرق فقعد له بطريق الإسلام فقال أتسلم وتترك دينك ودين آبائك فعصاه وأسلم ثم قعد له بطريق الهجرة فقال أتهاجر أتدع أرضك وسمائك فعصاه وهاجر هو قعد له بطريق الجهاد فقال أتجاهد وهو تلف النفس والمال فتقاتل فتقتل فتنكح نساؤك ويقسم مالك فعصاه وجاهد فمن فعل ذلك فمات كان حقا على الله أن يدخله الجنة". أخرجه النسائي من حديث سبرة بن أبي فاكه بإسناد صحيح.
فقد اتضح بهذا النوع من الاستبصار معنى الوسوسة والإلهام والملك والشيطان والتوفيق والخذلان وعلم العدو الداعي إلى الشر المحذور، لذا ينبغي أن يشتغل بمجاهدته ومحاربته كما قال الله تعالى: "إنّ الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير"، وقال تعالى: "ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين".
فينبغي للعبد أن يشتغل بدفع العدو عن نفسه وسلاح الشيطان الهوى والشهوات وذلك كاف للعالمين فأما معرفة ذاته وصفاته وحقيقته نعوذ بالله منه وحقيقة الملائكة فذلك ميدان العارفين المتغلغلين في علوم المكاشفات فلا يحتاج في علم المعاملة إلى معرفته نعم ينبغي أن يعلم أن الخواطر تنقسم إلى ما يعلم قطعا أنه داع إلى الشر فلا يخفى كونه وسوسة وإلى ما يعلم أنه داع إلى الخير فلا يشك في كونه إلهاما وإلى ما يتردد فيه فلا يدري أنه من لمة الملك أو من لمة الشيطان فإن من مكايد الشيطان أن يعرض الشر في معرض الخير والتمييز في ذلك غامض وأكثر العباد به يهلكون فإن الشيطان لا يقدر على دعائهم إلى الشر الصريح فيصور الشر بصورة الخير كما يقول للعالم بطريق الوعظ أما تنظر إلى الخلق وهم موتى من الجهل هلكى من الغفلة قد أشرفوا على النار أما لك رحمة على عباد الله تنقذهم من المعاطب بنصحك ووعظك وقد أنعم الله عليك بقلب بصير ولسان ذلق ولهجة مقبولة فكيف تكفر نعمة الله تعالى وتتعرض لسخطه وتسكت عن إشاعة العلم ودعوة الخلق إلى الصراط المستقيم وهو لا يزال يقرر ذلك في نفسه ويستجره بلطيف الحيل إلى أن يشتغل بوعظ الناس ثم يدعوه بعد ذلك إلى أن يتزين لهم ويتصنع بتحسين اللفظ وإظهار الخير ويقول له إن لم تفعل ذلك سقط وقع كلامك من قلوبهم ولم يهتدوا إلى الحق ولا يزال يقرر ذلك عنده وهو في أثنائه يؤكد فيه شوائب الرياء وقبول الخلق ولذة الجاه والتعزز بكثرة الأتباع والعلم والنظر إلى الخلق بعين الاحتقار فيستدرج المسكين بالنصح إلى الهلاك فيتكلم وهو يظن أن قصده الخير وإنما قصده الجاه والقبول فيهلك بسببه وهو يظن أنه عند الله بمكان وهو من الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليؤيد هذا الدين بقوم لا خلاق لهم " أخرجه النسائي من حديث أنس بإسناد جيد.
ولذلك روى أن إبليس لعنه الله تمثل لعيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم فقال له قل لا إله إلا الله فقال كلمة حق ولا أقولها بقولك لأن له أيضا تحت الخير تلبيسات وتلبيسات الشيطان من هذا الجنس لا تتناهى وبها يهلك العلماء والعباد والزهاد والفقراء والأغنياء وأصناف الخلق ممن يكرهون ظاهر الشر ولا يرضون لأنفسهم الخوض في المعاصي المكشوفة.
فحق على العبد أن يقف عند كل هم يخطر له ليعلم أنه من لمة الملك أو من لمة الشيطان وأن يمعن النظر فيه بعين البصيرة لا بهوى من الطبع ولا يطلع عليه إلا بنور التقوى والبصيرة وغزارة العلم كما قال تعالى: "إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا".
أي رجعوا إلى نور العلم فإذا هم مبصرون أي ينكشف لهم الإشكال فأما من لم يرض نفسه بالتقوى فيميل طبعه إلى الإذعان بتلبيسه بمتابعة الهوى فيكثر فيه غلطه ويتعجل فيه هلاكه وهو لا يشعر وفي مثلهم قال سبحانه وتعالى: "وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون".
قيل هي أعمال ظنوها حسنات فإذا هي سيئات، ولا ينجي من كثرة الوسواس كما سبق إلا سد أبواب الخواطر وأبوابها الحواس الخمس وأبوابها من داخل الشهوات وعلائق الدنيا، ويبقى مع ذلك مداخل باطنة في التخيلات الجارية في القلب وذلك لا يدفع إلا بشغل القلب بذكر الله تعالى ثم إنه لا يزال يجاذب القلب وينازعه ويلهيه عن ذكر الله تعالى فلا بد من مجاهدته وهذه مجاهدة لا آخر لها إلا الموت إذ لا يتخلص أحد من الشيطان ما دام حيا فأبواب الشيطان مفتوحة إلى قلبه لا تنغلق وهي الشهوة والغضب والحسد والطمع والشره...
قال رجل للحسن: "يا أبا سعيد أينام الشيطان فتبسم وقال لو نام لاسترحنا"، فإذن لا خلاص للمؤمن منه وإن كان له سبيل إلى دفعه وتضعيف قوته، كما قال ابن مسعود شيطان المؤمن مهزول.
وقال قيس بن الحجاج: قال لي شيطاني دخلت فيك وأنا مثل الجزور وأنا الآن مثل العصفور قلت ولم ذاك قال تذيبني بذكر الله تعالى.والمشكل أن الأبواب المفتوحة إلى القلب للشيطان كثيرة وباب الملائكة باب واحد وقد التبس ذلك الباب الواحد بهذه الأبواب الكثيرة فالعبد فيها كالمسافر الذي يبقى في بادية كثيرة الطرق غامضة المسالك في ليلة مظلمة فلا يكاد يعلم الطريق إلا بعين بصيرة وطلوع شمس مشرقة والعين البصيرة ههنا هي القلب المصفى بالتقوى والشمس المشرقة هو العلم الغزير المستفاد من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مما يهدي إلى غوامض طرقه وإلا فطرقه كثيرة وغامضة قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما خطا وقال هذا سبيل الله ثم خط خطوطا عن يمين الخط وعن شماله ثم قال هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ثم تلا وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل لتلك الخطوط". أخرجه النسائي في الكبرى والحاكم وقال صحيح الإسناد.