وهذا القلب كيف ننظِّفه؟ أبالماء البارد أم الساخن ؟ لا هذا ولا ذاك يفعل شيئا للقلب ، هل نستحم في ماء البحر ؟ لا ينفع ، أحد الأئمة ذهب إلى البحر المتوسط ، ووقف عنده ، و كان اسمه بحر الروم ، و قال له :
قليلك قد يطهِّر كل جسمي ،،،،،، يطهِّر بحر روم كل رسمي
وقلبي لا تطهِّره بـحــار ،،،،، يطهره العليم بنيل علمي
فالذي يطهر القلب العلم ، لكن ليس آي علم ، و أنما العلم النازل من عند الله ، وليس علم الكتب فالعلم النازل من السماء ، كالماء النازل من السماء ، فكما أن كل ماء لم ينزل من السماء لا ينفع ، كذلك كل علم لا ينزل من سماء الفضل الإلهي لا يرفع
فالماء الذي في البرك ؟ هل يصلح لري الزرع ؟ لا. لماذا ؟ لأنها تعفنت ، فهذه كالعلم الموجود في الكتب ، إذاً ما العلم الرافع؟ هو العلم النازل من سماء الفضل الإلهي لذلك فإن العلماء الذين تعجبوا من ذلك ، ذهبوا للشيخ أبى اليزيد البسطامى , وسألوه : كيف تؤثر في الناس بهذه الصورة ؟ وتصلح أحوالهم ؟ ونحن نتكلم كثيرا وكلامنا لا يجدي؟ فوضح لهم السر فقال :
{أخذتم علمكم ميتاً عن ميت - فلاناً عن فلان ، وهذا مات وهذا مات - , ونأخذ علمنا عن الحي الذي لا يموت ، فنأخذ علمنا في أي وقت شئنا ، وكيف شئنا} وهذا من باب قول الله {وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ} البقرة282
فلم يقل الشيخ فلان أو كليَّة كذا ؛ لأن هذا العلم لا يأتي إلا بالتقوى
وربنا لم يقل {واتقوا الله يعلمكم الله} ، فلو قال هذا لكان علما واحدا وكل من يتقِ الله يأخذه ، و لكنَّه قال{وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ} أي كلما تزيد في التقوى كلما تأخذ علوما أكثر وهكذا ، حتى تصل إلي ما ورد في الأثر {إنَّ اللَه يُفِيضُ عَلَىَ قُلُوبِ أهْلِ الْمَعْرِفَةِ ، سَبْعِينَ ألْفَ عِلْمٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ تَعَالى} أين هذه السبعون ألفا ؟وما حدودها؟
هذه العلوم أسرار في صدروهم ، لكنها علوم ترفع الإنسان ، وتطهِّر قلبه ، وتوصِّله إلى أنوار الله ، فهذه طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وضحَّها لنا الله ، وأجرى عليه المثال ؛ ليعرفنا أنه إذا كان هذا الرسول الكريم ، المبرأ من كل عيب ، قد شققنا صدره أربع مرات ، وأخذنا حظَّ الشيطان وألقيناه وأخذنا الغلَّ والحقد وألقيناهما، وملأناه شفقة ورأفة ورحمة، فأنتم أولى بذلك لأنكم أحوج إلى ذلك
فأول مرة تشقه وتخرج حظَّ الشَّيطان ، بعد هذا تملأ قلبك رأفة ورحمة لجميع خلق الله ، لأن الله يحبُّ العبد الشفوق الرفيق ، ولا يحبُّ الغليظ ولا الفظَّ ، ولذلك قال له {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} آل عمران159
والمرَّة التالية : أخرج كل ما فيه ، وإملأه إيمانا وحكمة ، إحشُ هذا القلب بالإيمان ، وعلوم الإيمان والحكمة ، وعلوم الحكمة ، ولا تحشه من كلام الصحف ، ومن الغيبة ، ومن النميمة ، ومشاكل التموين ، ومشاكل السياسة ، ومشاكل الكرة ، فهذا لا يناسب ذاك
فهذا رجل من كبار العرب - وهو لبيد بن ربيعة - وكان شاعرا من كبار الشعراء ، وقصائده كانت مكتوبة بماء الذهب ومعلقة علي الكعبة لأنه من أصحاب المعلقات ، لمَّـا أتاه ربُّنا بالإسلام جاءه نفر , وقالوا له :نريد أن تذكر لنا قصيدة من شعرك فغضب , فقالوا له :ما أغضبك؟ ، فقال لهم : ما كنت لأملئ قلبي بهذا القيح والصديد ، بعد أن ملأه الله بنور القرآن والإيمان ، فأصبح الشعر كالقيح والصديد بالنسبة له ، فلا يستوي هذا مع ذاك ، وتاب من الشعر
فلا بد للإنسان لكي يملئ قلبه بعلوم الإيمان ، أن يفرغه مثل الكوب ، فلكي يكون الماء الذي سيصبُّ فيها نظيفاً ؛ لابد أن تكون هي نظيفة ، لكن إذا كان بالكوب بعض الأتربة ، فالماء الذي سينزل فيه سيتلوَّث وهكذا علوم الله الإلهامية ، وأحوال الله العليَّة ، والرؤيـات والمكاشفات المناميَّة ، والعيانيَّة : لا تظهر ، و لا تُعطي ، إلا لمن طهَّر القلب بالكليَّة لربِّ البريَّة