السلام عليكم ورحمه الله
وكيف غوى إبليس آدم من
خارج الجنة؟
كيف استطاع إبليس أن يغوي آدم
وزوجه وهو مبعد عن الجنة؟
هل استطاع أن يدخل الجنة مرة أخرى؟ وكيف يدخلها وقد حرمها الله عليه؟
فإذا اهبط إلى الأرض فكيف يخاطب من في الجنة؟
أم أن الجنة كانت في الأرض؟
قبل الحديث عن كيفية إغواء إبليس لآدم عليه السلام
نقول أن مفارقة كل من إبليس وآدم للجنة ورد بلفظين لفعلين مختلفين:
هما "اهبط" ولفظ "اخرج"، وكلا الفعلين يدل على مفارقة الجنة،
وفعل الهبوط دل على هبوطين، هبوط من الجنة إلى أسفل الجنة وخارجها، وهبوط من أسفل الجنة إلى الأرض بعد ذلك.
أما الخروج فكان الحديث فيه عن خروج واحد؛ ألا وهو الخروج من الجنة.
والفرق بين الفعلين: أن الهبوط يدل على انتهاء البقاء في الجنة، ويترتب عليه وجوب الخروج.
وأما الخروج: فهو مفارقة المكان بالإكراه، وذلك بسبب التمسك بالمكان، والتشبث فيه، وعدم الرغبة بمفارقته، كالخروج الذي كان لهما من الجنة، وخروج الرسول صلى الله عليه وسلم من بيته في غزوة أحد، ومن قريته مكة بالهجرة منها. والأمثلة على ذلك في القرآن كثيرة، ويلحق من ذلك الخروج الشدة والمشقة في الغالب.
والهبوط المفيد بانتهاء البقاء قد دل عليه مجيء الهبوط في غير هبوط إبليس وآدم من الجنة.
فلما انتهت رحلة نوح عليه السلام ومن معه في السفينة بانتهاء الطوفان، وأصبح في الأرض أمكنة لا يغطيها الماء الذي انحسر عنها، فأمكن النزول عليها؛
قال تعالى : (قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ .... (48) هود، فقال تعالى "بسلام منا" لتفريق بين هذا الهبوط، وهبوط الخارج المكره عليه.
ولما أغضب اليهود ربهم ونبيهم بطلب استبدال المن والسلوى بالبقل والقثاء والفوم والعدس والبصل، وفي طلبهم هذا تركهم التفرغ للعبادة، وعدم الرضا بالتحرر من قيود الأرض وزراعتها، وقطع عزلتهم عن الناس التي فيها نقاهة أنفسهم، وراحتها من آثار الذل التي عاشوها سنوات طويلة، فأتاهم الله تعالى هذا العطاء الرباني الذي أغناهم عن العمل بالأرض، وعند الناس، وبدلاً من العمل في أرض يملكونها حولهم للعمل عند الناس، عقابًا لهم.
فقال تعالى لهم على لسان موسى: (اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ..... (61) البقرة.
وبين تعالى أن من الحجارة ما ينتهي بقاؤه في مكانه فيهبط من خشية الله ساقطًا إلى أسفل منه، أو متدحرجًا على سفح إلى منخفض من الأرض؛
قال تعالى: (وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ (74) البقرة،
فالهبوط يراد به ترك المكان، فترك نوح السفينة، ويترك الحجر المكان المرتفع، وهبوط بني إسرائيل مصرًا من الأمصار يفقدون عزهم وراحتهم بما يلاقونه من الذلة والمسكنة التي كتبت عليهم، فقال تعالى : "اهبطوا مصرًا" ولم يقل اهبطوا إلى مصر، فلو قيل ذلك لدل على مفارقتهم للمكان، وهم لم يكن لهم مستقر بعد خروجهم من مصر، وقد أمروا بالجهاد ودخول بيت المقدس، فمجرد هبوطهم مصرًا من الأمصار، يلاقوا الذل والهوان.
وكذلك كان انتهاء مقام إبليس في الجنة بالعصيان فأهبط منها؛
قال تعالى: (قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) الأعراف،
والهبوط له صورة في النفوس أنه النزول من المكان العالي إلى المنخفض، ومن المنزلة العالية والرفيعة إلى منزلة سفلية ودنيئة، ولمعرفتي بمعاني الحروف الهجائية، فإن حرف الطاء في الاستعمال العربي يفيد الامتداد باستعلاء وهيمنة، وهو في هذا الفعل آخر حروفه التي انتهت عليه، فيجعل ذلك استقرارًا ودوامًا لامتداده ، وهذا يخالف الصورة المعروفة للهبوط، وعند النظر في المواقف التي ذكر فيها الهبوط في القرآن الكريم نجد ما يوافق معنى الطاء:
فهبوط نوح عليه السلام من السفينة ومن معه يجعلهم يمتدون في الأرض، وينتشرون فيها، ومستعمرين لها، وقد أعطاهم الله ما وعده الله على لسان نوح عليه السلام من جزاء للاستغفار0
وهبوط الحجارة يفتتها وينشرها وتؤثر على كل ما تمر عليه.
وهبوط بني إسرائيل مصرًا من الأمصار يعطيهم الانطلاق بالعمل في الأرض، واستعمارها في طلب الرزق، ويشتتهم في الأرض، وقد كفاهم الله هذا العمل فلم يرضهم ذلك.
وهبوط آدم من الجنة يعطيه مباشرة العمل والانتشار في الأرض واستعمارها، ومن ذلك قوله تعالى لآدم في التفسير: [لأجعلن عيشك كدًا]، ووجود الذرية له، وانتشارها في الأرض، ولو ظل في الجنة لما زادوا عددهم عن اثنين، وما استعمار الأرض وانتشارهم في الأرض بأفضل لهم من الجنة.
وكذلك إبليس فإن هبوطه فيه إطلاق يده بالعمل وانتشاره جنسه بتكون الذرية؛ فقال تعالى: (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ(50) الكهف،
ودل على إطلاق يده في العمل بقوله: (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) الأعراف.
فحروف الفعل "هبط" دل الأول والثاني على نهاية بقاء إبليس في الجنة وكذلك بقاء آدم
وزوجه بعد ذلك فيها، وانحصار ظهورهم جميعًا فيها، لأن حرف الهاء يفيد الانتهاء، وحرف الباء يفيد الظهور، فلما انحصر بين الأول والأخير أفاد انحصار الظهور، ودل الحرف الأخير إلى ما سيؤول أمرهما بعد الخروج من الجنة. ولولا معاني الحروف لما فطنت إلى هذه المعاني. وعلم معاني الحروف علم عظيم وجليل، ولنا مع هذا العلم وأسراره في المستقبل إن شاء الله وقفات طويلة لأن كل فعل وجذر تختار حروفه لتدل على معناه .
ففي هذا الهبوط كانت نهاية بقاء إبليس في الجنة، فصعب عليه الخروج منها، فقال لذلك ما قال فيما سيفعل ببني آدم، فقال له تعالى: (قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُومًا مَّدْحُورًا 00(18) وخاطب تعالى آدم بعد طرد إبليس منها: (وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ، الظَّالِمِينَ (19) الأعراف،
وقد بينا في الإدراج الأول أو هذه الشجرة كانت
خارج حدود الجنة، وذكرنا سبعة عشر إشارة على ذلك، وأن إبليس كان عندها، فقد قال تعالى لآدم: (فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) طه، ما يدل على بقائه قريبًا منه ولكن
خارج الجنة، وعداوته غير مأمونة، وعلى آدم الحذر أن يخرجه من الجنة إليه كما خرج هو منها.
فإبليس لم يكن بعيدًا عن آدم، وكان بالإمكان التكلم معه، والدليل على ذلك:
أنه يمكن لمن كان
خارج الجنة أن يخاطب من كان داخلها، وكذلك من كان داخل الجنة أن يخاطب من كان خارجها، فقد جاء ذكر مخاطبة أهل الجنة لأهل النار، ومخاطبة أهل النار لأهل الجنة؛ (وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ(44) ... (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنْ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ(50) الأعراف، هذا غير مناداة أهل الأعراف أيضًا لهم،
فكلام إبليس مع آدم وهو في الجنة أسهل من كلام أهل النار لأهل الجنة، وبينهما سور مضروب يفصل بينهما، وليس قرب أهل الجنة من النار شديد بحيث يسمعوا حسيس النار.
فإبليس لم يزل في مرحلة الهبوط الأول إلى الأسفل
خارج الجنة، وهو مطلق اليد في العمل، فكان التحذير لآدم مما سيكون بينهما من اتصال، فلا إبليس دخل الجنة في بطن حية، ولا غيرها، وما في الجنة من هذه الزواحف شيئًا، ولا هو رجع إلى الجنة، بل خاطبه من مكانه عند الشجرة
خارج الجنة.
أما قوله تعالى: (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) الأعراف،
والوسوسة كلام يلقى في النفس فتنشغل به، وكلام إبليس لهما بأنهما ليسا ملكين؛ فمنزلتهما دون الملائكة، وليس في الجنة غير الملائكة سواهما، وأن الله تعالى لم يقل لهما بأنهما خالدين فيها، فهذان أمران يقلقان النفس، فنسي عهد الله من قبل، فأخرجهما من الجنة إلى الشجرة، فكان ما كان لهما.
وأرادا الرجوع إلى الجنة فقال تعالى لهما: (وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) البقرة، فهبطا إلى أسفل الجنة بانتظار نقلهما مع إبليس إلى الأرض، فقوله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) تبليغًا لهم من الله بمآل أمرهم، وأطلقت أيدهم بهذا الهبوط، إلى درجة أن عادى بعضهم بعضًا.
وكان الدرس الذي استفاده آدم مما حصل لإبليس من قبل، أن استغفر الله: (قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) الأعراف، فكان جزاء الاستغفار أن تاب الله عليه: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) البقرة،
ثم كان الهبوط إلى الأرض لهم جميعًا؛ لإبليس، ولآدم وزوجه، ( قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً) البقرة، ووعده بإرسال ما يكون فيه هدايتهم، ونجاتهم من النار: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39) البقرة.
الملاحظ: أن الله تعالى قال للشيطان: "اهبط منها" وقال: "اخرج منها"
وقال عن آدم "فأخرهما مما كانا فيه" وقال تعالى: "كما أخرج أبويكما من الجنة" ولو قال تعالى أنه هو الذي أخرجه منها لما عاد إليها إليها أبدًا. أما إبليس فلن يعود إليها أبدًا... والله تعالى أعلم
وسؤال قد يطرح: هل في الجنة أماكن أو مواضع لا تعد من الجنة؟
الجواب نعم ... فإن أهل الجنة يشروا بعد تجاوز الجنة عند أبوابها حتى يفتح لهم، وهذا المكان الذي يحشروا فيه لا يعد جزءًا من الجنة، لأنه
خارج أبوابها، ولا من النار فمن يقف فيه يلاقي العذاب، وفيه والله تعالى يضرب السور، ولارتباطه بأرض الجنة يعد منها وليس من النار، فقد قال تعالى لآدم
وزوجه بعد خصفهما من ورق الجنة: (وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ(36) البقرة، ولم يقل منها، وهبوطهم كان لأسفلها، فلما فارقوا الجنة وما حولها قال تعالى: (قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً(38) البقرة، فجعل المكان الذي آل إليه إبليس وآدم
وزوجه من الجنة، وهو ليس منها، وذلك لصغره وضيقه مقارنة مع عرض الجنة وكبر سعتها، ومثل ذلك؛ خطاب الله تعالى للملائكة بالسجود لآدم، وكان فيهم إبليس، فلم يخصه بالذكر لأنه واحد بين عدد كبير من الملائكة لا يعلمه إلا الله ... والله تعالى أعلم.