كُن إيجابياً
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. وأسعد الله أوقاتكم وجُمعتكم بكل خير. اليوم أحب أن أشارككم في موقف حدث معي وأنا في بداية الفصل الدراسي الجديد مع طلابي في الجامعة. مادة الحضارة الإسلامية مادة اعتاد الطلبة في مختلف المعاهد والمراكز والجامعات أن يتوقعوا من دراستها مجرّد سرد للأحداث التاريخية ولإنجازات المسلمين الحضارية في مختلف فروع العلم والمعرفة من طب وفلك ورياضيات وما شابه. ولكن في الحقيقة كان لي تصوراً آخر يختلف عن هذا، ما كنت قد وضعته من أهداف في مادة الحضارة الإسلامي أن يخرج كل طالب وطالبة بمشروعه الحضاري الخاص به علنا نستطيع أن نبني ولو لبنة واحدة في إعادة بناء وإحياء الحضارة الإسلامية من جديد عوضاً عن التغني بأمجادها وإنجازاتها السابقة.
دخلت القاعة وبدأت أشرح للطلبة المشروع الحضاري الذي أتوقع منهم أن يقوموا به وكيف أننا سنقوم بإنجازه من خلال فصل كامل على مدى خطوات وكل خطوة تقاس وتحسب ويحسب فيها مدى النجاح. وجدت فتوراً شديداً بين معظم الطلبة، تساءلت: لِمَ هذا الفتور؟! فوجئت إلى حد كبير بحالة الحزن والسلبية التي وصلت بهؤلاء الشباب، العديد منهم، الغالبية منهم إلى حد عدم الرغبة في عمل أي شيء! سلبية وصلت إلى الحد الذي يمكن أن نسميه عجز حقيقي وعدم رغبة في القيام بالعمل. وحين ناقشت المسألة أثار عدد منهم تساؤلات مشروعة تماماً: ما فائدة أن أعمل وغيري يهدم؟! ما فائدة أن أشيّد بنياناً مهما بلغ من القوة والرصانة والمتانة ثم يأتي أحدهم في طرفة عين ليهدم ما بنيت؟! ليهدم ما أفنيت فيه من ساعات عمري وشبابي وجهدي وطموحي ومالي وقدراتي ومواهبي، ما فائدة البناء؟!
أثار العديد منهم مسألة الشرّ وكيف أن أهل الشر أو كما يقال أهل الحرام وأولاد الحرام لم يتركوا لأولاد الحلال شيئاً يُذكر فالساحة مفتوحة للشر وأهله، لشياطين الجن والإنس يرتاعون فيها كما يشاؤون وثمة مساحة محدودة جداً
وضيقة ينافسون عليها أهل الخير ويحاصرونهم من كل مكان. لِمَ أهل الشر قد استحوذوا على كل شيء؟! لِمَ أهل الشر يترقّون في المناصب ويتسلقون عليها؟! لِمَ أهل الشر يمتلكون السلطة والنفوذ والمال؟! لِمَ يتحكّمون فيمصائرنا؟! لِمَ يتحكمون في مصائر العديد من الشعوب والمؤسسات والمجتمعات ويحرّكونها وفق أهوائهم وشهواتهم ونزواتهم؟! أكيد الأسئلة في غاية المشروعية، لا غبار على ذلك! ولكن أعتقد – ولا أدري إن كنتم تشاركوني هذا الرأي أم لا – أن القرآن العظيم حين يحدّثني عن قصص الأقوام السابقة ومواقف الأنبياء ومواقف أقوام الأنبياء وردود أفعالهم مع هؤلاء الأنبياء ومع المُصلحين كقاعدة عامة يحدّد لي أن وجود الشر والفساد مع الخير في صراع إنما هو جزء من الامتحان والابتلاء. لا قيمة لفوز فريق في كرة القدم على نفسه دون أن يكون هناك فريق آخر ينافسه، يتحدّاه، يوجه له الضربات في مرماه لكي يقوّي عنده الدفاع ويصدّ عنه الهجوم. وجود الشر، وجود السواد إلى جانب البياض في المجتمع أمرٌ لا بد منه، هو جزء من هذا الابتلاء، هو جزء من مدى امتحان قدرتي وصلابتي على الثبات أمام الشر. خير بدون شر لا يمكن أن يُعرف معناه ولا تُعرف قيمته. أبيض بدون سواد أو ألوان أخرى مختلفة لا يمكن أن يُعرف ولا تُعرف قيمة الصفاء الموجودة في اللون الأبيض. وبطبيعة الحال هذا لا يعني أن أبحث عن الشر وأصنعه لا، ولكن هذا يعني أني حين أواجَه وأجابَه في واقع الحياة وفي المؤسسات التي أعمل فيها في جامعة في مدرسة في شركة في أي مجال حين أواجَه وأجابَه من قبل قوى الشر المختلفة على تنوع أشكالها وأشخاصها لا أصاب بصدمة، لا أصاب بإحباط وإنما بالعكس يمكن أن يكون هذا نوع من أنواع المقوّيات لأجهزة الدفاع لديّ، هذا ضروري جداً في مسيرة الحياة. في نفس الوقت أنا مطلوب مني أن أقوم بعمل، أنا أُساءل على عملي كفرد، أنا لا أُساءل عن أهل الشر ماذا فعلوا وماذا صنعوا؟ ولكني أُساءل أمام الله عز وجل عما فعلته تجاه أهل الشر والفساد، عن مدى سعيي وعملي على هذه الأرض لإيقاف مدّ الشر والفساد، لإيقاف مظاهر الفساد التي بدأت تستشري في المجتمع حتى كأنها سرطان في مراحله المتقدمة. أنا لا يُطلب مني الاستسلام، أنا لا يُطلب مني الإحباط، نفسية المُحبَط لا يمكن أن تكون نفسية إنسان فاعل ولا مُنتِج في واقع الحياة! في نفس الوقت أنا مطالب تماماً بأن أراجع العمل الذي أقوم به وأتأكد أني أقوم بخطوات صحيحة وأحدد الهدف الذي أريد.
ودعونا نكون على شيء من التواضع والتبسيط في تحديد أهدافنا. على سبيل المثال أنا لما أطلب من الطلبة ومن الشباب أن يحدد هدفه في مشروعه الحضاري على هذه الأرض لا أطلب منه مشروعاً حضارياً خارج إمكانياته المادية أو العقلية أو أو، لا، أنا لا أطالب الطالب بما يطالَب به أستاذ على سبيل المثال، ولا أطالب موظف صغير في شركة بما يطالب به رئيس حكومة أو رئيس دولة، هذا غير ممكن. ضمن الإمكانيات، ضمن الحدود التي أمتلكها أنا وأنت