كانت هناك حكاية تُروَى لنا ونحن صغار، وتردّدت في برامج الأطفال التلفزيونية، وأحياناً تُكتب في مجلات الأطفال؛ ولكني لم أعد أسمعها الآن؛ مع أنها تستحقّ أن تُروى اليوم أكثر من أي يوم مضى، والأهم أنها تصلح للكبار قبل الصغار؛ بل هم أولى بها من غيرهم.
تبدأ الحكاية عندما أقبل رجل غريب على مجلس أحد الخلفاء.. وبالطبع لم يكن يُسمح لكل من هبّ ودبّ بدخول مجلس الخليفة؛ فرواد المجلس إما شاعر أديب له إبداعات وإنجازات لا تصدر إلا من إنسان ذكي أريب.. أو قد يكون أحد الولاة الذين حضروا ليناقشوا الخليفة في أوضاع البلاد، وينظروا معه كيفية النهوض بأحوال العباد.. وربما كان صاحب مَظلمة، احتار في حل مشكلته، وبعد أن لفّ ودار على أهل القرار والمسئولية، لم يجد غير الخليفة مُنصفاً لإقامة حدود العدل الإهية.
ولكن صاحبنا الغريب عن المجلس لم يكن من الأصناف الثلاثة؛ فهو ينضمّ تحت لواء رابع يسمح له بين الحين والآخر بالدخول، ومجالسة الأمراء والفحول، وأصحاب هذا الصنف هم مَن امتلكوا مهارة خاصة، أو تمتّعوا بمهارة غير اعتيادية، وكان الرجل أحد هؤلاء.
بداية الاستعراض
وبعد أن تناقش الخليفة مع ولاته، ونظر في المظالم المقدمة، واستمع للجديد من الشعر والحِكَم، طلب من هذا الغريب أن يُعرّف بنفسه ويقدّم ما عنده؛ فقام الرجل وعرّف باسمه ونسبه، ثم راح يتكلم في ثقة عما يملك من مهارات لم يرها الخليفة من قبل، ولم يسمع عنها الحاضرون في حياتهم الطويلة..
وفي حركة استعراضية تثير فضول الحاضرين، توسّط الرجل المجلس وأخرج من جيبه قطعة قماش سوداء مُعتمة، وطلب من أحد الحاضرين أن يعصب بها عينيه (أي الغريب) ويتأكد من أنه لا يرى شيئاً؛ فأسرع أحدهم في حماس لتنفيذ مطلبه، وبعد أن تأكد الغريب من أن الفضول قد استبدّ بجمهوره، أخرج من جيبه جراباً صغيراً، وبدأ يُخرج منه مخيطاً (إبرة خياطة) طويلاً، وقذف به في اتجاه عمود خشبي، كان يقف مقابلاً له تماماً؛ فاستقرّ المخيط في العمود.
أسمع أحد القراء يقول في تهكّم: أهذه هي كل مهارته، ما الجديد في ذلك؛ فأنا أستطيع أن أفعله بكل سهولة؟
مهلاً أيها الصديق؛ فالرجل لم يُخرج كل ما عنده بعد؛ فبعد أن استقرّ المخيط في مكانه، مدّ الرجل يده في جرابه، وأخرج مخيطاً آخر، وسط تساؤل الحاضرين ماذا سيفعل بمخيطه الجديد..
وقبل أن يصل تساؤلهم إلى ألسنتهم، كان الرجل قد مال بجسده قليلاً، ثم قذف مخيطه الجديد في اتجاه العمود، وإن شئنا الدقة فقد قذفه في اتجاه المخيط السابق.
ووسط دهشة الحضور وتعجّبهم تحرّك المخيط في الهواء؛ وكأنه يعرف طريقه ليخترق ثقب المخيط السابق، قبل أن يستقرّ في هيكل العامود.
ولم يجد جلساء الخليفة غير فغر أفواههم في تعجّب وأن يقولوا: "سبحان الله"، وقبل أن يُفيقوا من صدمتهم، كرر الرجل فعلته بإخراج مخيط ثالث، وقذفه تجاه المخيط الثاني؛ ليحقق نفس النتيجة، ومن بعد الثالث جاء الرابع، ثم الخامس.. إلى أن وصل عددهم إلى عشرين مخيطاً.
وما إن انتهى من استعراضه ورفع العصابة عن عينيه، أخذ يتأمل وجوه الحاضرين؛ حتى اطمئن وزادت ثقته بنفسه؛ فلقد رأى في العيون إعجاباً، وعلى الشفاه كلمات استحسان محبوسة، تنتظر أن يُبدي الخليفة إعجابه أولاً؛ لتخرج في فرح وسرور.
رد فعل الخليفة
وبعد أن تجوّل في وجوه الحاضرين امتدّ بصره للخليفة؛ فوجده لا يحرّك ساكناً، ولا تبدو عليه آثار أي انفعال؛ فتقدم خطوات، وقال له: أرجو أن أكون قد أرضيت مولاي الخليفة.. فقال له الخليفة: أنت صاحب مهارة لا شك في ذلك؛ ولكن يشغلني كم احتجت من عمرك لتصل إلى هذا المستوى؟
انتفخت أوداج الرجل، وقد ظنّ الخليفة قد أعجب به، وقال في تواضع مصطنع: لقد تدرّبت على هذه المهارة لمدة عشرين سنة يا مولاي.
هزّ الخليفة رأسه، ونادى الحاجب وأمر بصرف عشرين ديناراً للغريب صاحب المهارة، وقبل أن يستدير الحاجب منفّذاً أمر الخليفة، أضاف إليه طلباً آخر، وأمر باستدعاء الجلاد وضرب الرجل عشرين جلدة.
وهنا تعالت صيحات الرعب من الغريب، وهو لا يعرف لماذا يُضرب، وما الذنب الذي جناه؟
فأجاب الخليفة: تستحقّ جلدة سوط عن كل عام ضيّعته فيما لا ينفعك ولا ينفع المسلمين.. وفي رواية أخرى للحكاية، يقول الراوي إن الخليفة جَلَد الرجل فقط، ولم يمنحه أي مال..
ألست معي أن الحكاية تستحقّ أن تُروى الآن؟!!
ومن منا يا ترى كان سيأمر الخليفةُ بضربه إن رآه وهو يضيع عمره هباءً فيما لا ينفع أو يفيد، بعد تفنّنا في اكتساب مهارات إضاعة الوقت والعمر.
حاول أن تحسب كم ساعة في اليوم تقوم فيه بعمل ينفعك؟ وكم ساعة أخرى تضيعها فيما لا يفيد؟
لقد تذكّرت هذه الحكاية وأنا أرى برنامجاً تليفزيونياً جديداً يحاول صُنع فرقعة عالية الآن، يدور حول اكتشاف أصحاب المهارات، وعندما ترى إعلانه؛ فهذا أكثر ما تحمّلت مشاهدته منه، تجد أن أصحاب المهارات المزعومة لا يُقدّمون أية مهارة مفيدة غير الرقص على طريقة مغنين عالميين، أو تقديم أكروبات مكانها السيرك؛ هذا إن كان لها مكان!
وأنت أيها الصديق، هل تمتلك مهارة تمكّنك من دخول مجلس الخليفة؟ وهل هذه المهارة ستستحق عنها التقدير والثناء والمكافأة، أم سيكون الضرب هو نصيبك؟