لَن أُسَـامِــح :"/ :: اتِّصالٌ هاتِفِيٌّ :: - السَّلامُ عليكم . - وعليكم السَّلام . مَن معي ؟ - أخوكَ . فسَكَتَ ... - كيف حالُكَ يا أخي ؟ لم يَرُدّ . - أخي ، أجِبني . ظَلَّ صامِتًا ... - أخي ، واللهِ إنِّي أُحِبُّكَ ، ولم أفعل شيئًا يَستحِقُّ هذه القطيعة . لم أفعل شيئًا يَستحِقُّ هذه المُعاملةَ الجافَّةَ والهَجرَ . مُجرَّدُ خِلافٍ في الرأي غيَّرَكَ هكذا ! لا أُصدِّق أنَّ هذا أخي ، صاحِب الأخلاق الحَميدة ، والقلب الطيِّب . ما زال أخوه صامِتًا ... - إن كُنتَ تراني مُخطِئًا في حقِّكَ ، فأعتذِرُ عَمَّا بَدَرَ مِنِّي ، فلم أقصِد إغضابَكَ ، ولم أُرِد إزعاجَكَ ، وإنِّي أُحِبُّكَ ، وأُريدُ لكَ الخيرَ ، ولا أُحِبُّ أن نقطَعَ أواصِرَ أُخُوَّتِنا ، أو أن نجرحَ عِلاقتَنا ، وننسى صِلتَنا وقرابتنا . سامِحني يا أخي ، واعفُ عنِّي . فرَدَّ عليه قائِلًا : لن أُسامِحكَ . وأغلَقَ الهاتِف . ذَهَبَت في زيارةٍ لأُختِها . طرقت البابَ ، ففتَحَت لها ، وكأنَّها صُدِمَت حين رأتها . فلم تعرِف أتُسلِّمُ عليها ، وتُدخِلُها لبيتِها ، وتُرَحِّبُ بها ، أم تُغلِقُ في وجهها البابَ . وقفَت قليلًا مُتحيِّرةً . ثُمَّ سلَّمَت عليها ، وصافحتها مُصافحةً مُرتبِكةً ، وأدخلتها . جلَسَت معها صامِتةً . شعرت أُختُها أنَّها لا تُريدُ استقبالَها ، وأنَّها تحمِلُ في نفسِها شيئًا عليها ، فلم تُظهِر لها ذلك . وبدأت تسألُها عن أحوالِها وأحوالِ أبنائِها ، وهِيَ تُجيبُها على قدر السُّؤال . - قالت : ماذا بِكِ يا أُختي ؟! - قالت : لا شيء . - قالت : ما زِلتِ غاضبةً مِنِّي ؟! فسَكَتَت ... - قالت : يا أُختي ، كُلُّ شيءٍ نصيبٌ . لم تتوقَّف الدُّنيا عند رَفضِنا لزواج ابنِكِ من ابنتِنا . وليس معنى ذلك أنَّ ابنَكِ رجلٌ سيِّئ . فما كان قرارُنا إلَّا بعد استخارةٍ . وهذا ما قَدَّرَه اللهُ تعالى . أنهجُرُ بعضَنا لأجلِ شيءٍ قدَّره اللهُ لنا ؟! أنقطَعُ أرحامَنا ونُقسِّي قُلوبنا وقُلوبَ أبنائِنا لأمرٍ كهذا ؟! أفيقي يا أُختي ، وانظُري فيما فعلتِ ، وعلى أيِّ شيءٍ قاطعتِ . فنَظَرَت إليها ، وهِيَ تقولُ في نفسِها : لن أُسامِح . ترفضون زواجَ ابني بابنتِكم ، وتُريدُونني أن أُسامِحَكم ! وهل مِثلُ ابني يُرفَض ؟! شابٌّ يملكُ بيتًا ووظيفةً لا يَجِدهما غيرُه من شباب اليوم . ثُمُّ رَفعَت صوتَها ، وقالت غاضِبةً : لا تتكلَّمي في هذا الموضوع ثانيةً ، فلا أُحِبُّ الحَديثَ فيه . - قالت : ألَا تُسامِحي يا أُختي ! ألَا ترضينَ بقَدَر اللهِ ، وتبحثين لابنِكِ عن زوجةٍ أُخرى مُناسبةٍ ! فأعرَضَت بوَجهِها عنها ، وقالت : هذا أمرٌ لا يَخُصُّكِ . لم تستطِع الجُلوسَ أكثرَ من ذلك وهِيَ ترى هذا الجَفاءَ من أُختِها . فخَرَجَت من عندها ، ودُمُوعُها على خَدِّها . كان في خِلافِاتٍ ومشكلاتٍ مع أبيهِ على أشياء ماديَّةٍ وحُطامٍ دُنيويٍّ زائِلٍ ، أوصلَه للوقوفِ أمامه في المحاكم . مَرِضَ أبوه ، واشتدَّ به المَرضُ ، فلم يُفكِّر في زيارتِهِ ، ولو زيارةً عابِرةً . لم يُفكِّر في السُّؤال عنه أو معرفةِ أحواله ، بل ولم يذهَب لرؤيتِه وهو يحتضِر . حتى تُوفِّيَ ، فلم يَرِقّ قلبُه ، وحَضَر جنازتُه على مَضَض . لم يُسامِح أباه قبل موتِهِ ، بل لم يطلُب منه أن يُسامِحَه ، أن يَدعوا له ، أن يَرضَى عنه . سلَّمَت على صديقتِها ، فرَدَّت السَّلامَ ، ولم تُصافِحها كعادتِها . بدأت تُكلِّمُها ، فلم ترَ منها استجابةً أو تفاعُلًا . سألتها عن سبب سُكوتِها وإن كانت فعلت شيئًا أغضبَها . - فأجابتها قائِلةً : أنسيتِ ما قُلتيه بالأمس ؟! - قالت : وماذا قُلتُ ؟! - قالت : أنسيتِ كلامَكِ الجارح ، وأُسلُوبَكِ القاسي ؟! - قالت : ما قُلتُ إلَّا كلامًا طيِّبًا ، وما نصحتُكِ إلَّا برِفقٍ ، وما كُنتُ إلَّا رقيقةً معكِ ، مُشفِقةً عليكِ ؛ لأنِّي أُحِبُّكِ . أتَعُدِّينَ النصيحةَ الحانيةَ قسوةً ؟! - قالت : لكنِّي لن أُسامِحَكَ على ما فعلتِ . - قالت : أمرُكِ غريبٌ يا صديقتي ! ما فعلتُ شيئًا يجعلُكِ تتغيَّرين هذا التَّغيُّرَ الكبيرَ . فتركتها ، وغادرت المكانَ . ألقَى جارُه عليه السَّلامَ ، فلم يَرُدّ . أعاده ثانيةً ؛ ظنًّا منه أنَّه لم يَسمعه ، فلم يَرُدّ . نظر إليه مُتعجِّبًا ، وقال : ما بالُكَ يا جاري الحبيب لا تَرُدّ عليَّ السَّلامَ ؟! - قال : وهل أعرتني اهتمامًا أصلًا حتى أرُدَّ عليكَ ؟! - قال : ماذا تقصِدُ يا جاري ؟! فأنتَ حبيبي وأخي في الله . كيف لا أهتَمُّ بِكَ ؟! - قال : أَوْلَمْتَ لابنِكَ عند زواجِهِ ، ولم تدعُني لحُضور الوليمة . - قال : بل دَعوتُكَ . - قال : لم تدعُني . - قال : لَعلِّي نسيتُ مع كثرةِ الانشغالاتِ وطلباتِ الأُسرةِ ومهامي ومسئوليَّاتي الكثيرة . ثُمَّ إنَّكَ لا تحتاجُ لدعوةٍ ؛ فأنتَ صاحبي وحبيبي ، تحضُرُ مع أوَّل الحاضِرين ، بل وتستقبِلُ الضيوفَ معي . - قال : دَعكَ من هذا الكلام ، فلن أُسامِحكَ على هذا الموقفِ الذي تجاهلتني فيه ، ولن أنساه أبدًا . - قال : بل سامِح يا أخي ، فالأمرُ لا يستدعي ذلك ، والتَّسامُحُ من شِيَم الكِرام . - قال : لن أُسامِح . ودَخَلَ بيتَه ، وأغلَقَ البابَ . كثيرةٌ هِيَ المواقِفُ التي تَمُرُّ بنا ، أو بالنَّاس حولنا . قد تكونُ مُشكلاتٍ بسيطةً ، أو خِلافاتٍ عاديَّةً . وقد تكونُ مواقِفُ يغلِبُ عليها الجهلُ أو النِّسيانُ . لا يُسامِحُ أصحابُها ، ولا ينسون الإساءةَ ، وإن كانت غيرَ مقصودةٍ . تظلُّ المواقِفُ عالقةً بأذهانِهم ، تُؤرِّقُ نومَهم ، وتُعكِّرُ صَفوهم ، وتُكَدِّرُ أيَّامَهم ، رغم أنَّها لا تَستحِقُّ ذلك . تُمحَى كلمةُ التَّسامُح من قامُوسِهم ، وتُحذَفُ كلمة الصَّفْح من قُلوبِهم ، وتغيبُ كلمةُ العَفو عن حياتِهم . يُقسِّونَ قُلوبَ أبنائِهم بسُوءِ تصرُّفاتِهم ، ويَحرمون أنفُسَهم أُجورًا كثيرةً بهَجرهم وخِصامِهم . أحِبَّتي في الله ، أيَّامُنا في الدُّنيا مَعدودةٌ ، وأنفاسُنا مَحدودةٌ ، والدُّنيا فانيةٌ زائِلةٌ . كُلُّ لحظةٍ تَمُرُّ بنا تُقرِّبُنا أكثرَ من قُبورنا ، وتُبعِدُنا عن دُنيانا بزَخارِفها وملذَّاتِها . لا شيءَ يَستحِقُّ مِنَّا أن نهجُرَ أحبابنا لأجلِهِ سِوَى المَعصيةِ ؛ لأجل أن يرتدِعوا ويَعودوا إلى اللهِ . الكُفرُ هو سببُ الهَجر والقطيعةِ . لكنْ أن نهجُرَ إخوةً لنا في اللهِ ، أن لا نُسامِحَهم ، أن نُقاطِعَهم ونرفُضَ مُقابلتَهم ، ونَرُدَّهم إذا أقبلوا علينا ، فهذا ما لا يرضاه دِينُنا ، ولا يرضاه رَبُّنا سُبحانه . أتعلمونَ أنَّه ( لا يَحِلُّ لمسلمٍ أن يَهْجرَ أخاهُ فوقَ ثلاثِ ليالٍ ) مُتفقٌ عليه ؟! أتعلمونَ أنَّه ( تُفتَحُ أبوابُ الجنَّةِ يومَ الاثنينِ ، ويومَ الخميسِ ، فيُغفَرُ لِكُلِّ عبدٍ لا يشُرِكُ باللهِ شيئًا ، إلَّا رجلًا كانت بينَهُ وبينَ أخيهِ شحناءُ ، فيُقالُ : أنظِروا هذَينِ حتَّى يَصطلِحا ، أنظِروا هذَينِ حتَّى يَصطلِحا ، أنظِروا هذَينِ حتَّى يَصطلِحا ) رواه مُسلم ؟! أتفرَحُ إذا أُوقِفتَ بين يَدَي اللهِ سُبحانه في الآخِرةِ ؛ لِيُقتًصَّ لأخيكَ منكَ ؟! أتفرَحُ إذا أخذ من حسناتِكَ ؟! أترضَى أن يَرجَحُ مِيزانُ سيِّئاتِكَ على مِيزان حسناتِكَ بسبب قطيعتِكَ لأخيكَ المُسلِم ؟! أعلَمُ أنَّ في داخِلِكَ خيرًا كثيرًا ، وأنَّكَ تُحِبُّ أخاكَ في الله ، وتتمنَّى لو تحتضنه وتُصافِحه بقُوَّةٍ ، لكنَّ موقِفَه آلَمكَ . انسَ ما بَدَرَ منه . أقبِل عليه . تأكَّد أنَّه سيَفرحُ بكَ ، سيبكى إذا رآكَ ، لن يستطيعَ أن يُعَبِّرَ لكَ عن مَدَى سعادتِهِ بكَ . لا تَقُل : أنتظِرُ مُبادرتَه هو وإقبالَه إليَّ ، فقد أقبل إليكَ من قبل ورَدَدتَه . كُن أنتَ الفائِزَ بالحَسناتِ ، المُبادِرَ إلى الخَيراتِ ، الطَّالِبَ للجَنَّاتِ . لا تَدَع شيطانَكَ يُوَسْوِسُ لكَ ويُثنيكَ عن ذلك . لا تسمَح لنفسِكَ الأمَّارةَ بالسُّوءِ أن تطلُبَ منكَ الاستمرارَ في القطيعةِ . لا تجعل هواكَ يُحرِّكُكَ ويُزيِّنُ لكَ هَجركَ وخِصامَكَ . كُن قويًّا تستطيعُ التَّغلُّبَ على كُلِّ ذلك ، فـ ( المؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى اللهِ منَ المؤمنِ الضَّعيفِ ) رواه مُسلم . خُذ قرارًا شُجاعًا بأن تَعفُوَ وتصفَحَ ، وأن تجعل ذلك صِفةً مُلازِمةً لكَ ؛ فبها تنالُ الأجرَ ، بل والأجمل من ذلك مغفرةُ اللهِ سُبحانه ، ( وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) النور/22 . فيا له من فضل ! لا تحرِم نفسكَ منه . فقط صَحِّح نيَّتَكَ ، ولتَعفُ ولتُسامِح لله ؛ ابتغاءَ مَرضاتِهِ ، وطَمعًا في جنَّاتِهِ . حينها ستشعُرُ بتَغيُّر قلبِكَ للأجمل ، وتبدُّل حياتِكَ للأحسن ، وستستشعِرُ قولَه تعالى : ( وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) آل عمران/134 . حُبُّ اللهِ غايةٌ نسعى لها ، نتمنَّاها ، ونسعَدُ لو حقَّقناها في دُنيانا وآخِرتنا . لهذا فاعمَل ، وكُن مُتسامِحًا ، مُحسِنًا ، مُتناسِيًا للزَّلَّاتِ ، مُتجاوِزًا عن الأخطاءِ والهَفواتِ . وَفَّقنا اللهُ وإيَّاكُم لمَرضاتِهِ ، وجعلنا مِن أهل جنَّاتِهِ . |