فايزة، فتاة جميلة ويتمناها الكثيرون كزوجة، ورغماً عن هذا، تم طلاقها بعد خمسة وخمسين يوماً بالتمام والكمال من تاريخ زواجها، والأسباب مجهولة ، ولكن السبب المتداول بين أهلها ومعارفها وجيرانها أنها كسولة و ( لا تنفع كست بيت ).
شقيقتها منيرة، حظها من الجمال قليل، بل قليل جداً، ولكنها ( ست بيت) من درجة ( الخمس نجوم )، فهي طوال ساعات اليوم إما في المطبخ أو محتضنة (طشت) الغسيل أو تقوم (بكى) الملابس أو بإزاحة الأتربة والغبار، دون كلل أو ملل، (شعلة من نشاط).
الأب كان قد تنفس الصعداء عندما تزوجتْ فايزة ، و لكن هاهي تعود ( لعرينها ) ، فصار همه مرة أخرى مضاعفاً.
طرق الباب ذات يوم أحد أقرباء الأب .
كان مغتربا انقطعت أخباره عنهم لفترة طويلة، وسمعوا أن زوجته قد توفيت في أول ولادة لها ولم يتزوج بعدها.
برزت علامة استفهام كبيرة وحائرة لدى الأسرة : يا ترى ما الذي رمى به في طريقنا بعد كل هذه السنوات ؟ أيرغب في إحدى البنتين ؟
قالت فايزة في نفسها وهي تمعن التحديق إلى قوامها وشعرها في المرآة : أكيد سمع بطلاقي و أتى ليتزوجني. هذه المرة لن أفرط فيه كما فرطت في السابق، ( قفصي جاهز هذه المرة بعين ساهرة لا تعرف النوم أو الغفلة ).
وابتسمت لنفسها وأصلحت من هندامها وهي تتأبط أمرا في نفسها الأمارة بالزواج مرة أخرى.
أما منيرة، فتعرف أنها لا تملك شيئا تتباهى به غير ( فنها المطبخي ) لذا فهي تعتمد على مباهاة أمها بها أمام الجارات والأقارب والخاطبات.
ذاك اليوم، جاء المغترب وتجاذب أطراف الحديث مع الأب لبرهة ثم خرج مشيعاً بنفس علامة الاستفهام والتي كبرتْ وتضخمتْ بين أفراد الأسرة الحائرة.
غرق الأب في التحليل والتخمين وهو ينظر للفتاتين.
والأم حائرة ، ولا تدري لمن ترشحه إذا تقدم.
قفْزٌ مبكر على معطيات الأمور.
ولكنه حدْس الأم الذي يقوده خوفها على مستقبل البنتين وحرصها على أن تدخلا بيت الزوجية.
ومنيرة تنظر للأب وكأن لسان حالها يقول : أنا أوْلَى به يا والدي.
أما فايزة ، ظلت تقبع في غرفتها وهي تتظاهر بعدم المبالاة معتمدة على جمالها، رغم الأسئلة الكثيرة التي تزحم رأسها والآمال العريضة التي تتراقص أمام عينيها.
بعد عدة زيارات غير معلنة الأهداف ، تأكد للجميع ، أن ( صاحبنا ) يقوم بزيارات إستكشافية ويناور في تكتيك يلفه الصبر.
فزادت وتيرة المباراة في البيت.
فايزة تتألق بثياب وبقايا ( مجوهرات وذهب ) زواجها الأول التي تطلق عليها إحدى صديقتها (بقايا الحزن القديم ) .
ومنيرة أخرجت كل ما في جعبتها من أصول الطهى.
وقفتْ الأم محايدة بين الطرفين ترقب سير المنافسة، والأب يقف بحذر في صف المطلقة لأسباب مقتنع بها في دخيلة نفسه.
صراع خفي يحتدم بين الفتاتين .
ولكنه صراع مكبوت ، تفضحه أحياناً التصرفات أو التعليقات.
لم يحدث قط أن وصلت الأمور بين الشقيقتين إلى هذا الحد من المناكفة والغيرة.
يأتي (صاحبنا) ، فتهرع فايزة بكامل أناقتها وأسلحتها الهجومية لتفتح الباب .
وما أن يستقر على الكرسي تكون منيرة قد أتت بالعصير وارتطام مكعبات الثلج بجوانب الكاسات الزجاجية يموسق خطواتها الخجولة وجمالها المتواضع.
بعد أن شرب ( صاحبنا ) هنيئا مريئا، قال إنه عصير لم يشرب مثله من قبل.
قالت فايزة لمنيرة من بين أسنانها، بحكم أنها الكبيرة :
سوف أقوم أنا بتقديم المشروب بعد هذا اليوم.
قالت منيرة وهي متحفزة : لا مانع، بشرط أن تقومي بإعداده بنفسك.
سكتتْ فايزة على مضض ، فهي تكره دخول المطبخ.
وعندما سبقت منيرة يوماً فايزة في فتح الباب لصاحبنا ، قالت فايزة وهي تلوي ( شفتيها ) : لم هذه الخفة والشفقة ؟
ردتْ منيرة : هل نادى عليك يا فايزة وقال تعالي وافتحي لي الباب ؟ قال خفة وشفقة قال .
أحيانا عندما يأتي العريس ، تختلق فايزة مشواراً لمنيرة للبقال ليخلو لها الجو ، وتبدأ المشاحنة.
ذات يوم، وما قبل ذات زيارة ، أخفت منيرة كل الذهب التي تتزين به فايزة.
وحدثت أول مشكلة بينهما تطلّبتْ تدخل الوالدين لفضها وهما في حيرة من أمرهما والحال الذي وصلت إليه الشقيقتان وانقلاب أحوالهما رأسا على عقب.
و (صاحبنا) يأتي وينقل بصره حيث شاء بين الفتاتين.
وحرب خفية تدور بين الأختين ، وهو لا يدري أنه أشعل أوار معركة حامية الوطيس.
وانطلقت أولى الشرارات عندما أتى (صاحبنا) بهدية وقال للأب : هذي هدية متواضعة لأختنا منيرة.
لولا الحياء لأطلقت منيرة زغرودة تجيدها تماما، زغرودة تختزنها طيلة أيام وليالي شبابها.
ليلتها، توسّدتْ الهدية بدلاً من الوسادة وهي تستدعي أحلام يقظة من بنات خيالها الجامح ، وسهرت تدعو الله أن يلج صاحبنا في قفصها والتي نذرت إن فعل وولج القفص لتغلقه عليهما القفص وتبتلع المفتاح ( لا دخول ولا خروج ).
ليلتها، مرت الساعات على فايزة وكأنها دهور، تنظر إلى منيرة تحتضن هديتها وهي تكاد تنفجر من الغيظ. ومنيرة لا تفتأ تغني لكى تزيد من غيظها، أغنيات بها ذِكْر الهدايا والأحباب، تختتمها بآهات مصحوبة بزخات من التنهيد.
أتى صاحبنا متأنقاً في اليوم التالي، فبادرته منيرة بفتح الباب له منحنية خجلاً تداري جمالها الشحيح، وكأنها تشكره على الهدية، وتظهر له استعدادها لتكملة بقية المشوار، ولكنه فاجأ الجميع بأن أحضر هدية ( طبق الأصل ) لفايزة وهو يعتذر بأنه لم ينس هديتها ولكنه لم يجد مفتاح الحقيبة الأخرى في ذلك اليوم.
ألجمت المفاجأة الجميع ، وخاصة منيرة. فعقلها المحدود لم يستطع أن يحلل مغزى المساواة هذه.
فايزة رغم أنها كسبت معركة ولم تكسب حربا، أيضاً لم تجد تفسيراً للذي حدث.
ماذا يريد هذا الرجل ؟ ربما هو في صراع نفسي للاختيار والمفاضلة.
وهنا قرر الأب أن يرتاح من هذا الجو المتوتر والحيرة اليومية فسارع بسؤال الرجل سؤالا مباشراً :
هل تزوجتْ بعد موت زوجتك الله يرحمها ؟
قال الشاب بهدوء : لا يا عمي
قال الأب وهو يكتم سروراً : إذن ماذا تنتظر ؟
قال الشاب بلهفة : من أجل هذا جئتك يا عمي ، وكلما أردت مفاتحتك بالموضوع ، تخونني شجاعتي. والحمد لله أنك فتحت الموضوع.
وهنا إنفرجت أسارير الأب بإبتسامة عريضة وقال بثقة وهو يمدد رجليه كأبي حنيفة :
حسنا يا بني، أيهما تريد ؟
فقال صاحبنا : هي قالت أنك في مقام والدها المرحوم الذي أوصاك خيرا بها ولا بد من موافقتك.
قال الأب وهو يهب واقفا كالملسوع : من تقصد ؟
فقال الشاب مطرقاً : ابنة أخيك التي تقيم مع شقيقها هناك في نفس مدينتي بالغربة.
فايزة ومنيرة كانتا تسترقان السمع من وراء ستار،
نظرت كل واحدة إلى الأخرى وبزاوية حادة من الدهشة المشوبة بخيبة الأمل والغيظ والإحباط ، ثم بلا وعْى احتضنتْ كل واحدة الأخرى وراحتا في ضحك هستيري تدوران في الغرفة…