عالج ألامك النفسيه البحث في الألم قديم ، نرى صفحات في تحليله لدى الفلاسفة الأولين ، وقد تحدث أفلاطون عن الألم واللذة حديثاً شاعرياً ، إذ كشف عن الحدود الرقيقة التي تكاد تكون موهبة بين هذين العنصرين من العناصر النفسية ، اللذين يلعبان دوراً مهماً في سلوكنا وتصرفنا وإقبالنا على الحياة أو إدبارنا عنها . ويتساءل علم النفس الحديث عن موضوع اللذة والألم في مجموع الحياة النفسية ، أهمها ميل أم غريزة أو ماذا ؟ ولكنه يخلص من تساؤله إلى أنها الأصل الذي تقوم عليه الانفعالات ، لأن وراء الانفعال المبهج لذة ، و وراء الانفعال المحزن ألماً . وقد يذهب الحديث عن الألم في شعاب ومسالك عسيرة حتى لتطرق هذه الشعاب وتلك المسالك أبواب الكليات ، ولكن الذي يهم الطبيب هي أشياء أكثر تواضعاً .. فهو لا يبحث عن الألم من ناحيته الفسيولوجية فحسب ، بل يبحث ظواهره بصورة عميقة يستهدف كفاحه وقراعه . غير أن الحياة والتجربة تضع الطبيب أمام واجب المواساة والمعالجة ، حتى الآلام النفسية ، نظراً لما يولي المرضى أطباءهم من ثقة مطلقة ، وإنشاده للنصح والإرشاد من جميع ما يرهقهم ، ويقلق بالهم ، ولذا كان علينا أن نتحدث عن الألم في مظهرية الجسمي والنفسي . إن الألم الجسمي الذي يشعر به الإنسان ، هو نذير الطبيعة بوجود ما يؤذيها ، فإذا كسر عظم توالت صيحات الألم كلما حرك المرء عضوه المصاب ، لأن الحركة تزيد في الموقف حرجاً ، والآلام تجبر المصاب أن يلتزم السكون كي تتمكن الطبيعة من جبر الكسر وإصلاحه قبل إن يفقد صاحبه العضو كله . وما يصح في المثال السابق يصح في الصداع وألم الجنب وارتفاع الحرارة وغيرها ، فما الآلام إلا صيحات الجسد المحذرة التي تهيب بصاحبه أن أسرع برتق الصداع ومكافح الطارئ الخارجي مرضاً كان أم جرثومةً . أما الآلام النفسية فما هي إلا أصداء النفس الكئيبة وانعكاسات الأفكار السوداء التي تجول في خاطر صاحبها .. وهي نذير له بأنه يسير في الحياة سيراً غير منسجم مع الواقع والطبيعة . نفقد عزيزاً أو قريباً فتعضنا الآلام ويقعدنا الهم والحزن عن القيام بأعمالنا ، وتجر الآلام ألام ، وتتزايد المتاعب والمصاعب ، وما يحزننا ويهمنا لا يلبث أن تعفي عليه يد الأيام ويمسحه الزمن ليحل محله السلو والنسيان ، فإذا الحزن ذكرى بعيدة قد تثير فينا ، بدل الهم والغم ، ارق الابتسامة وأبعد السخرية ، وقد قال الشاعر : ستألف فقدان الذي قد فقدته كإلفك وجدان الذي أنت واجد ومن الخطأ الفادح أن يركن المتألم نفسياً إلى الإكثار من التدخين لنسيان همومه أو أن يرمي بنفسه إلى اللعب وتضيع الوقت ، ظناً منه أن ذلك قد ينسيه أو أن الحظ الذي جانبه سابقاً سيواكبه في مرحلته الخاطئة الثانية ، وسيمر بيد النسيان على آلامه السالفة .. ومن المتعارف عليه بين الناس <خطأ> أن يسارع كل من أخفق في عمل أو مشروع ، أن ينسى همومه بالتدخين واللعب وإضاعة الوقت ، ليسلو وينسى ، فإذا آلامه إلى ازدياد ، وجروحه حتى المندملة إلى تفتق .. ثم لا يكون مثله إلا كمثل المستجير من الرمضاء بالنار . وقد يحدث أن يسقط المرء فيحس ، ومنذ أن يفتح عينيه ، بكآبة تقبض على صدره وتمسك بخناقة لا يدري لها سبباً ، فهو قاتم مظلم ما فيه التماعة واحدة من السرور تجعله ينظر إلى الحسن على اعتباره حسناً ، وهو في عمله متبرم بالناس ، ضيق الصدر غير مقبل على ما بين يديه وإذا هو حاول شيئاً أعوزه الإبداع والحيلة . وقد يخفق الطالب في الفحص ، كما يخفق كل إنسان ، وهو يخطئ في أمر من أمور آلامه بازدياد أوهامه ، وتتجمع الحياة في نظره في نقطة واحدة سوداء هي الإخفاق ، وتضيق آفاته ليعيش في دنيا صغيرة قد لا يرى فيها أبعد من أنفه ، ويسهو عن باله أن الدنيا مليئة بالمباهج وأن الطبيعة لا تحس بألمه ، فما هو إلا ذرة صغيرة بالنسبة إلى هذا الكون ، لقد أخطأ وقصَّر في العمل فأخفق ، وعليه أن يضاعف جهده أو أن يُقوِّم سيرته كي ينجح ، وما هو بأول أو آخر مخفق في هذه الحياة ، أما إذا حصر همه في الحزن وفي إخفاقه وفيما يترتب عليه ، فإن الطبيعة تقتص منه ، فيغدو فريسة هينة لسقام مقيم وعذاب أليم . فإذا كان الأسبرين والمورفين ومشتقاتها علاجاً للآلام الجسمية الطارئة ومخففة ومسكنة لصيحاتها ، فالابتسامة والاستخفاف بمشاكسات الدنيا ومصاعبها علاج للآلام النفسية ، وما على المصاب إلا التسلح بالمرح والابتسامة ، ليكسب على مرور الزمن ، روح التفاؤل ، فينظر إلى الحياة نظرة مرحة مستبشرة ، وعليه كذلك الارتماء في أحضان الطبيعة < الأم الرؤوم > التي تحنو على من يتمسك بها ، ليستمتع بمباهجها ، وأن يولي ظهره لما آلمه فأضناه . إن علماء التربية يسلكون مسلك الطبيب ، أعني يلحقون أسباب الكآبة وينبوع الغم فيوضحونها ، ومعلوم أن توضيح أمر والعلم به أنما هو بمثابة التشخيص عند الطبيب ، وهكذا فإن المربين ينصحون المكتئبين الذين لا يدرون لكآبتهم سبباً ، أن يتقروها بأن يتغلغلوا في طوايا أنفسهم ويسيروا أغوارها ، ويظلوا كذلك حتى يقبضوا على رأس الأفعى ، هنا تبدأ مرحلة جديدة ، تعتمد حتماً على قوة ومتانة بنيانها ، لأن المكتئب أن يحلل ما كربه ، ويخفف ما أمضه كما سبق لنا أن بينا . تصفية النفس والروح ، هو عمل يصبوا إليه كل متألم ومتشائم ، نسي أن بعد كل عسر يسر ، وأن هناك من يراقبه في أعلى سماء ، لكن هذا المتألم قد جعله أهون رقيب ، فنسيه ، فنُسِيا ، فكان كل ما يحتاجه هو التأمل والاستبصار والبحث عن الطريقة للتطهر من كل شائبة ومعصية أنسته نفسه ، ليعرف أين موضع الجرح فيوقفه. ولتصفية الروح والنفس من الأخطاء يتطلب جهداً يسيراً ، لكن عميقاً ، الأمر أشبة بجلسة تأمل ، مع غمض العينين وفتح القلب والعقل وتصفية الذهن من كل ما يشغله . شدد تركيزك في عقلك ، تخيل أن هناك نوراً يحيطك من كل جانب ، حاول أن تصل بتخيلك إلى الله وعظمته ، تخيله أمامك وهو ينظر إليك مباشرة ، حاول أن تستشعر عظمته حتى تشعر بالضعف والهوان أمامه ، حاول أن تذكر أسم الله بصوت عالي ،حاول أن تناديه ، فإن لها وقعة في القلب وراحة للنفس { ألا بذكر الله تطمأن القلوب }. وعندما تكون مستعداً خاطب ربك في أعماقك ومن أعماق أعماقك ، أسترجع ذنوبك وخطاياك على مر العمر ، خاطبه تائباً نادماً ، فإن وصلت مرحلة تشعر برغبة عارمة للبكاء ، لا تكبت ، بل وزد من الحان الحزن والبكاء بحثاً عن حنان الله ، فإن شعرت بالتعب أسجد طويلاً حتى ترتح نفسك وقلبك . والآن أستشعر بنور يغمرك أتياً من الله عز وجل ،حاول أن تشعر به ، حاول أن تلمسه ، حاول أن تستنشقه ولكن ببطء شديد ، أبق الهواء داخلك لثواني معدودة ، وعند إخراجك الهواء تخيله مسوداً كأن شوائب نفسك قد خرجت لتصفي لك جسدك وذهنك من كل ما أتعسك طوال حياتك . كرر ذلك كل يوم ، حتى تشعر كأنك نور يسير ، مليء بالسعادة والراحة والسكينة قول الله تعالى مؤكداً في آيته الكريمة { فإن مع العسر يسرا () إن مع العسر يسرا } أننا مراقبون ، ومنتظَرون من الواحد الأحد ،لنرجع ونتوب أليه ، وما ينقصنا هو خطوة إلى الأمام وإلى الطريق المستقيم . ولا تنسى أن الحياة الفكرية والمعنوية ، كالدنيا المادية ، كروية ، لها وجه مظلم ووجه منير فإذا أقبلت علينا أن نغتنم متعها ومباهجها ، وأن أدبرت وأولتنا وجهها المظلم فلنغمض أعيننا ، ولنستسلم إلى الكرى ، غير آبهين بما داهمتنا به من خطوب ، فما من ليل إلا ويعقبه فجر ، وقديماً قال البحتري : وأزرق الليل يأتي قبل أبيضه وأول الغيث قطر ثم ينسكب أو كما قالت أحدى المعلمات لأحد تلامذتها وقد غمت على عيشه غيوم اليأس : " إن الحياة ككأس من الماء غير مترعة ، لا يرى ظمآن المتفائل إلا نصفها المليء ، ولا يرى السوداوي المتشائم إلا نصفها الفارغ " |