زعماء من السجن الى الحكم
من اكثر المفارقات التي تحكم السياسة و الإِيالة منذ اقدم العصور، انها كانت على الدوام حُبلى بالمفاجآت لمن يمارسها، فهي كالسفينة تتقلب في البحر وتتحكم فيها الرياح، فإذا مالت دفتها، تغيرت أحوال سائسيها، وسفّانيها، من حال الى حال، فمن السجن الى الحرية والسلطة، ومن العزة والحكم الى السجن والمنافي.
وليس بغريب، ان الكثير من الزعماء اليوم، وفي الماضي، كانوا سجناء، افضى بهم تغير الأحوال الى ان يصبحوا زعماء، و اكثر منهم عددا اولئك الزعماء الذين آل بهم الامر الى قيعان السجون. هذا التقرير يكشف عن الصنف الاول، اولئك السجناء الذين اضحوا زعماء اليوم يسيّرون امور الحكم والرعية في البلدان.
وليست ظاهرة سجن المنشقين والمعارضين بطارئة على التأريخ، فمنذ أوجد الانسان لنفسه نظاما يحكمه، فان هناك توافقا واختلافا حول الموقف من السلطة التي اعتادت في اغلب الاحيان تغييب من تعتبره تهديدا لها، وفي جميع أنحاء العالم يلجأ الطغاة، والأنظمة العقائدية وحتى الديمقراطية الى سجن ذوي (المعتقدات المختلفة).
مانديلا: سجين سياسي أم سجين رأي؟
يتساءل الكاتب الهولندي تايس باوكنخت في ما اذا "كان نيلسون مانديلا سجينا سياسيا أم سجين رأي"، فقد أمضى مانديلا 26 عاما وراء القضبان على جزيرة روبين بسبب معارضته لنظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا حيث بدى وكأنه سجين رأي.
ويزيد باوكنخت القول " لكن تصريحاته التي قال فيها يومها، إنه يجب الإطاحة بالنظام العنصري مهما كلف الأمر وحتى باستعمال العنف إذا لزم الأمر، تدفعنا إلى تصنيفه بين السجناء السياسيين.. فكل سجين رأي هو سجين سياسي، لكن ليس كل سجين سياسي هو سجين رأي ".
وكان مانديلا (1918) الرئيس الأسبق لجمهورية جنوب إفريقيا وأحد أبرز المناضلين والمقاومين لسياسة التمييز العنصري خرج من السجن حاملا سنوات المعتقل وساما على صدره، محققا النجاح والانتصار بعدما تقلب الزمان، فصار السجين زعيما، والطاغي السجّان الى الاعتقال، وآلت السلطة الى المعارضة، أمام اصحاب القرار فالى المنافي والمعتقلات.
وخلال سنوات سجنه، أصبح النداء بتحرير مانديلا من السجن رمزا لرفض سياسة التمييز العنصري.
وحين عُرِض عليه العام 1985إطلاق سراحه مقابل إعلان وقف المقاومة المسلحة، رفض العرض. وبقي في السجن حتى العام 1990 عندما أثمرت محاولات المجلس الإفريقي القومي، والضغوطات الدولية عن إطلاق سراحه بأمر من رئيس الجمهورية فريدريك ويليام دى كليرك.
السادات..السجين محمولا على الموقف السياسي
وكانت أيام حرية الرئيس المصري السابق محمد أنور السادات (1918 - 1981)، في زمن الاحتلال الانكليزي معدودة، بعدما ضُيِّق عليه، لنشاطاته المناوئة لهم، فطرد من الجيش واعتقل عدة مرات.
وكان من اسباب اعتقاله ان الإنجليز اكتشفوا صلته مع الألمان فدخل المعتقل العام 1943. لكنه استطاع الهرب من المعتقل، وعمل أثناء فترة هروبه من السجن عتالاً على سيارة نقل تحت اسم مستعار. وفي العام1945 ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية سقطت الأحكام العرفية، وبسقوط الأحكام العرفية عاد إلى بيته بعد ثلاث سنوات من المطاردة والحرمان.
كاسترو.. 15 عاما من السجن
وفيدل أليخاندرو كاسترو (1926)، والذي كان رئيسا لكوبا منذ العام 1959 وحتى العام 2008، ذاق مرارة السجن بسبب مشاركته المسلحة ضد النظام القائم آنذاك، فقد هاجم إحدى الثكنات العسكرية انتهى بإلقاء القبض عليه، ليحكم بالسجن 15 عاماً حيث أُطلق سراحه العام 1955، ونفي بعدها إلى المكسيك.
أردوكان .. سجن العسكر
ودخل الزعيم الاسلامي التركي نجم الدين أربكان (1926 - 2011) السجن بعد ان قاد قائد الجيش كنعان إيفرين انقلابا عسكريا العام 1981 أطاح بالائتلاف الحاكم، لتبدأ سلسلة إجراءات لإعادة القوة للتيار العلماني عبر تشكيل مجلس الأمن القومي وتعطيل الدستور وحل الأحزاب واعتقال الناشطين الإسلاميين.
قضى أربكان في السجن ثلاث سنوات لكنه خرج في إطار موجة انفتاح على الحريات في عهد حكومة أوزال، فأسس في العام 1983 حزب الرفاه، الذي شارك في انتخابات نفس العام لكنه لم يحصل سوى على 1.5بالمئة من الأصوات، لكنه لم ييأس إذ واصل جهوده السياسية حتى أفلح في الفوز بالأغلبية في انتخابات العام1996 ليترأس حكومة ائتلافية مع حزب الطريق القويم برئاسة تانسو تشيللر.
تجربة مريرة..
وتشير التجارب الى ان للمعتقل تجربة مريرة في حياة الزعماء، ونجحت في الكثير من الاحيان في اضافة الكثير من الافكار والسلوكيات على حياتهم، فقد صقلتهم الحياة المظلمة التي عاشوها في السجن وجعلتهم اكثر تحديا وإصرارا على تحقيق الاهداف التي سُجنوا لأجلها.
[
الجبالي.. السجين السياسي
وأمضى السياسي التونسي حمادي الجبالي (1949)، 16 عاماً في السجن في عهد الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي منها عشر سنوات في الحبس الانفرادي، وهو يشغل اليوم منصب أمين حركة النهضة التونسية العام كما تم تكليفه بترؤس مجلس الوزراء التونسي في العام 2011 خلفا لحكومة الباجي قايد السبسي بعد فوز حركة النهضة في انتخابات المجلس التأسيسي.
واعتمدت منظمة العفو الدولية مصطلح(السجين السياسي) قبل خمسين عاما، في وصفها لمعتقلين سجنوا من قبل الانظمة لمعارضتهم لها.
مرسي.. يرفض الهروب من السجن
محمد مرسي (1951) أول رئيس للجمهورية المصرية الثانية، والرئيس الخامس منذ إعلان الجمهورية، تعرض في زمن الرئيس المصري السابق حسني مبارك الى المضايقات من السلطات، وحوكم عدة مرات، حاله حال قيادات جماعة الاخوان المسلمين التي فرض عليها مبارك حظرا صارما ولاحق أعضاءها لنحو 30 عاما.
وفي العام 2006، دخل مرسي السجن، ثم وُضع قيد الإقامة الجبرية في منزله، ثم عادت السلطات إلى اعتقاله أيضا في العام2011 بعد قليل من اندلاع الثورة التي أطاحت بمبارك في شباط من العام ذاته.
وبعد فتح السجون وهروب المعتقلين، رفض مرسي ترك زنزانته، وتشير صفحته الرسمية إلى أنه "اتصل بالقنوات الفضائية ووكالات الأنباء يطالب الجهات القضائية بالانتقال لمقرِّ السجن والتحقق من موقفهم القانوني وأسباب اعتقالهم، قبل أن يغادر السجن؛ لعدم وصول أية جهة قضائية إليهم".
و فاز مرسي في الانتخابات الرئاسية بعد منافسة مع الفريق أحمد شفيق بنسبة 51.7 في المائة من الأصوات، في مقابل 48.3 في المائة من الأصوات لشفيق.
هافيل.. الزعامة الأخلاقية
وكان فاتسلاف هافيل ( 1936 -2011) منشقا على النظام في بلده تشيكيا، وبين زنزانة السجن و مقر الرئاسة كانت حياته مليئة بالمفاجآت والتناقضات حيث لخص الرئيس الأمريكي باراك أوباما رحلة هافيل، في كلمة في اعقاب وفاته بعد صراع طويل مع المرض (مقاومته السلمية هزت أسس الإمبراطورية الشيوعية وكشفت خواء الايديولوجية القمعية وأثبتت أن "الزعامة الأخلاقية" أقوى من أي سلاح).
وجسد هافيل في افكاره ونضالاته (قوة الضعفاء)، وهو عنوان المقال الأشهر الذي كتبه في العام 1978 والذي تنبأ فيه بانهيار الحكم الشمولي على ايدي المواطنين الضعفاء.
عانى هافيل من الاعتقال ومن الخضوع للمراقبة اللصيقة من جانب البوليس السري على مدى عقدين، ومنع من الكتابة وتم حظر نشر مسرحياته ومقالاته.
وبدأت بذرة المقاومة والرفض للاستبداد والقمع في النمو داخل هافيل منذ سن مبكرة. وخلال ربيع براغ العام 1968كان هافيل من أشد معارضي مبدأ (الشيوعية ذات الوجه الانساني)، مؤكدا أنه لا يمكن ترويض الشيوعية.
ومع قمع الاتحاد السوفيتي لربيع براغ بالدبابات مُنع هافيل من الكتابة وحظر عرض مسرحياته. واعتقل هافيل في العام 1977 بتهمة (التخريب) وحكم عليه بالسجن لمدة خمس أعوام الا انه اطلق سراحه في العام 1983 قبيل انقضاء فترة سجنه بعد اصابته بالتهاب رئوي.
وكان ديسمبر العام 1989 موعد هافيل للانتقال من موقع المعارضة إلى قمة السلطة ليجسد (السلطة الأخلاقية) المحفزة للثورة المخملية.