*
معاقد الفرج.. كلماتٌ ثﻼث
من بين ظلماتٍ ثﻼث: ظلمةِ أكبرِ كائنٍ بحري، وظلمةِ البحرِ اللجّي الهائج، وظلمةِ السماء الملبّدةِ بالغيوم السود، ومع الرياح العاصفة التي أهاجت الموج فجعلتْه كأمثال الجبال، ولعبتْ بالسفن التي تحاول عبثاً أن تحافظ على استقرارها، من بين ذلك كلّه: انطلقت دعواتٌ خالصةٌ تشق هذا الركام الظﻼميّ إلى السماء مسرعةً، فتفتّحت لها أبوابها، وﻷجلها جاء الجواب اﻹلهي سريعاً ومنقذاً من هذه المهالك، وتحقّق الفرجُ لصاحبها.
*
*
ﻻ إله إﻻ أنت..سبحانك..إني كنت من الظالمين، كلماتٌ ثﻼث اختصرت الكثير من معاناة نبيٍّ من اﻷنبياء، أراد الله أن يكون ابتﻼؤه في السجن، ولكن أيُّ سجن ذلك الذي احتواه؟ ليس لذلك السجن بابٌ يوصد وﻻ قفلٌ يُفتح، بل ليس فيه حرّاسٌ يُؤمرون فيَأتمرون، ويُطلب منهم فكاك من حُبس عندهم فيُطلقوا سراحه؛ ﻷن السجنَ والسجّانُ هنا هو مخلوقٌ واحدٌ، ﻻ يفهم خطاب البشر، وهو الحوت الذي احتوى سيدنا يونس عليه السﻼم، والشهير باسمِه اﻵخر: ذي "النون"، والذي جاء من قصّتِه مع الحوت.
القصّة معروفةٌ ومشهورة، وليس القصدُ سردُها أو تناولُها، إنما المُراد الحديث عن تلك الدعوة النبويّة التي ما فَتَرَ لسان هذا النبي الكريم من تردِيدها وهو في ظُلمة الحوت، وتتداعى في الذهن أسئلة عديدة عنها: ما معنى تلك الدعوة النبوية؟ولم كانت كاشفة للكرب؟ وما مناسبة ذكر اﻻعتراف بالظلم ووقوع الذنب؟ واﻷهم من هذا كلّه: كيف يمكن تناول هذه الدعوة النبويّة من منظورٍ عقديٍّ يكشف عن عظمتِها وأهميّتها وارتباطها بمنهجٍ عامٍ له أبعادُه العقديّة؟ ولﻺجابةِ عن هذه التساؤﻻت ينبغي الشروع في التعليق على هذه اﻷلفاظ، فنقول وبالله التوفيق.
اللفتة اﻷولى:ﻻ إله إﻻ أنت
كلمةُ التوحيد شاملةٌ للنفي واﻹثبات، فهي كمثلِ قولِ الله تعالى: {إياك نعبد وإياك نستعين} (الفاتحة: 5) فﻼ نعبد إﻻ إياك، وﻻ نستعين إﻻ بك، وقوله سبحانه: {وما أمروا إﻻ ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء} (البينة: 5). وقوله تعالى: {ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل} (الحج: 62 )، فكلّ معبودٍ من دون الله فهو باطلٌ، مهما كان لهذا المعبودِ من فضلٍ أو مكانةٍ أو منزلة، ﻻ أنبياءَ وﻻ أولياءَ وﻻ مﻼئكةَ وﻻ غيرّهم، فكلّ معبودٍ غير الله تعالى فهو باطل، وعبادةُ صاحبِه باطلةٌ، وعابدُه على باطلٍ، والمقصودُ بــ"الباطل" هنا: الذي ﻻ يَنفع عابدَه، وﻻ ينتفع المعبودُ بعبادتِه، كما يقولُ العلماء، ولذلك ثمّنَ النبيُّ –صلى الله عليه وسلم- قولَ لبيد معتبراً إياه أصدق كلمة قالها في حياتِه:
أﻻ كل شيء ما خﻼ الله باطل
والﻼفت هنا، أن كثيراً من اﻷذكار واﻷدعيّة النبويّة استُفتحت بشهادة التوحيد، نذكر منها على سبيل المثال، سيد اﻻستغفار كما جاء في صحيح البخاري: (سيد اﻻستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي ﻻ إله إﻻ أنت خلقتني، وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فاغفر لي فإنه ﻻ يغفر الذنوب إﻻ أنت).
*
*وفي الدعاء بقوله: (ﻻ إله إﻻ أنت) معنىً عميق قلّ من ينتبهُ إليه، وهو أن التقديم واﻻستفتاح في هذا الدعاء بذكر شهادةِ التوحيد القصدُ منه اﻹقرار والعهد على البقاء والتفيّؤ في ظﻼل العبوديّة مهما اشتدّت المحن وتوالت اﻻبتﻼءات، قال تعالى: {ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا واﻵخرة ذلك هو الخسران المبين} (الحج:11)، ﻷن اﻷساس الذي بنى عليه توحيده كان على تقوى من الله ورضوان، وهذا هو السببُ في ثباتِ صاحبِه على المِحَن: {أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خيرأم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم} (التوبة: 109)، وبذلك يتبيّن السرّ في تقديم هذه الكلمات بين يدي الدعاء، ﻷنها متضمّنةٌ لمعنى التوسّل باﻷعمال الصالحة، وأعظمها وﻻ شك: توحيد الله جلّ وعﻼ، فكأن صاحب اﻻبتﻼء يقول: "إلهي! مهما صنعتَ من شيء وقدّرتَ من بﻼء فلن أعبدَ غيرك".
اللفتة الثانية: سبحانك
(التسبيح) في اللغة: التنزيه، تقول: سبحان الله تسبيحاً، أي: نزهته تنزيهاً، فهو تنزيه الحق عن النقائص، وما ﻻ يليق بعظمته وكماله.
والنفيُ هنا عن النقائص ليس نفياً مجرّداً عن السوء، أو كما يقول علماء المعتقد: ليس نفياً محضاً، ولكنه نفيٌ يُقصد به إثبات المحاسن والكمال لله تعالى، قال شيخ اﻹسﻼم ابن تيمية: " فالنفي ﻻ يكون مدحاً إﻻ إذا تضمن ثبوتاً، وإﻻ فالنفي المحض ﻻ مدح فيه، ونفي السوء والنقص عنه، يستلزم إثبات محاسنه وكماله".
واللفظ هنا وإن كان نفياً عامًّا لكل أنواع النقص، إﻻ أن المقصود اﻷعظم منه في هذا المقام: نفي الظلم عن الله تبارك وتعالى، حيث قدّر هذا اﻻبتﻼء على عبدِه دون أن يكون ذلك منه ظلماً أو عقوبةً بغير ذنب؛ ﻷن الظلمَ من أقبح اﻷمور التي يُنزّه عنها الباري تبارك وتعالى؛ لتمام عدلِه وإحسانِه: {إن الله ﻻ يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً} (النساء:40)، {وما الله يريد ظلما للعالمين} (آل عمران:108) ، {وما الله يريد ظلما للعباد} (غافر:31)، {ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فﻼ يخاف ظلماً وﻻ هضما} (طه:112)، ويؤكّد ذلك ما جاء في السنة من مثلِ قول الله تعالى في الحديث القدسي: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً فﻼ تظالموا...يا عبادي! إنما هي أعمالكم، أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله عز وجل، ومن وجد غير ذلك فﻼ يلومن إﻻ نفسه) رواه مسلم.
*
*قال شيخ اﻹسﻼم ابن تيمية: "ففي قوله: {سبحانك} تبرئته من الظلم، وإثبات العظمة الموجبة له براءته من الظلم؛ فإن الظالم إنما يظلم لحاجته إلى الظلم أو لجهله، والله غني عن كل شيء، عليم بكل شيء، وهو غني بنفسه، وكل ما سواه فقير إليه، وهذا كمال العظمة".
أما فائدة هذا التسبيح وثمرتُه، فهي مذكورةٌ في قوله سبحانه: {فلوﻻ أنه كان من المسبحين * للبث في بطنه إلى يوم يبعثون} (الصافات:143-144)، فكان هذا التنزيه المتتالي لله تعالى عن النقائص والعظائم سبباً في تعجيل الفرج وانتهاء المحنة.
اللفتة الثالثة: إني كنت من الظالمين
بعد أن نفى يونس عليه السﻼم الظلم عن الله تبارك وتعالى، كان اﻻعتراف بالذنب والتقصير، وﻻ شك أنه هو السبب الحقيقي لنزول البﻼء، وفي إثبات ظلم العباد ﻷنفسهم وردت الكثير من اﻵيات، التي تثبت ذلك، نذكر بعضاً منها: {وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} (النحل:118)، {وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم} (هود:101)، {وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين} (الزخرف:76)، وقول نبي الله آدم عليه السﻼم: {ربنا ظلمنا أنفسنا} (اﻷعراف:23).
وهذه ثنائيّةٌ رائعةٌ نستقيها من مشكاة النبوّة، أن يجمع العبدُ بين حالين عظيمين من حاﻻت التوسّل: التوسّل بالعمل الصالح، وبضعفِ حال السائل، فكان جديراً باﻹجابة، ولذلك كان التعليم النبوي ﻷصحابه أن يقولوا في كل صﻼةٍ، وعند دعاء اﻻستفتاح: (اللهم أنت الملك ﻻ إله إﻻ أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعاً، فإنه ﻻ يغفر الذنوب إﻻ أنت) رواه مسلم في "صحيحه".
*
*
وهذا اﻻعتراف واﻹقرار ووصفِ النفسِ بدخولها في جملةِ الظالمين -والظلمُ وصفٌ ﻻزمٌ لﻺنسان إما لنفسِه وإما لغيرِه- كان ذلك اﻹخبار سبباً للنجاة، كما قال الحسن البصري: "ما نجا إﻻ بإقراره على نفسه بالظلم"، ثم إن هذا اﻹخبار قد تضمّن طلباً للمغفرة من الله تعالى، فكان سبباً للنجاة.
*
*
اللفتة الرابعة: إﻻ استجاب الله له
حينما تضمّنت تلك الكلمات اﻹقرار بالتوحيد، والتوسّل بالعمل الصالح، وتنزيه الباري سبحانه عن الظلم، واﻹقرار بالذنب، شكّلت بمجموعها صورةً مثاليةً للعجز واﻻنكسار واﻻطّراح بين يدي رب العباد، والله تعالى قد اتصف بالحياء والكرم كما جاء في الحديث الصحيح: (إن ربكم حييٌّ كريم، يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا) رواه أصحاب السنن عدا النسائي، فكيف بمن أحسن الدعاء، وأحسن التضرّع؟*
ولذلك كانت اﻻستجابةُ وعداً إلهياً أكيداً، عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (دعوة ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت: ﻻ إله إﻻ أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فإنه لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إﻻ استجاب الله له) رواه الترمذي.*
*