- مات ..!
كانت تجلس على مِقعدٍ في ركنٍ من الغرفةِ وقد تمدد جسدها بفتورٍ ويداها إلى جانبيها ، عيناها تُحدقانِ
بشكلٍ هيستيريّ في السقفِ وقد تجمعت فيهما دموعٌ أَبَتْ أن تسيلَ على وجنتيها ،
وشفتاها ترتعشانِ بألمٍ كمن يتمتمُ بكلماتٍ لا صوتَ لها !
بَدَت مُغيّبَةٌ تماماً وكأنها تحت تأثيرِ مُخدرٍ حَالَ بينها وبين سماعِ ما قيل لكن قلبها انقبضَ بقوةٍ مُعلِناً تلك الحقيقةَ بداخلِها ..
- مات !
تَغيّرَت وضيعةُ يديها فصارتا تحت رأسِها ، وتنهدت بطريقةٍ أقربَ للصراخِ . بالتأكيد هذا [ كابوس ]
كأنها تسيرُ في نفقٍ أحاطت بِه الأشباحُ و أسدَلَ عليه الليلُ ثوباً غُدّافيّاً أسودَ لا انثناءَ فيه
أغمضت عينيها بعصبيّةٍ كالطفلٍ حين يرى مشهداً مُخيفاً لا تقوى عيناه البريئتان على احتماله على غيرِ
درايةٍ بأنه لن يستطيعَ منع الرؤيةِ الداخليّةِ من الوضوح !
استندت على حافة السريرِ بجوارها وهبّتْ واقفةً في ضعفٍ تنظر إلى الجسدِ المُلقى عليه ، مَدَّت يدها بصُعُوبة
وراحت تتحسس وجهه ببطء . أحست به كتلة من الثلجِ تحتَ أصابعها وهي التي كانتْ تشعرُ بشراراتٍ
ناريّة تسري بها ما إن تمسّها يده صُدفةً ..
انحدرت منها دمعةٌ لا إرادية وسقطت على جبينِه ، أدارت رأسها بسرعة واتجهت نحو الشرفةِ تتطلع من
خلفِ أبوابها الزجاجية بعينين لا تبصرانِ شيئاً إلى الخارجِ ؛ كانت صورته أولَ مرةٍ رأته فيها تتمثلُ أمامها
بوضوح : عريضُ المنكبين ، ممشوقُ القوامٍ ، بوجهٍ أسمرَ ذي ملامحَ أرستقراطية تصرخُ بجمالٍ بدائيّ يُضفي
عليه مسحةَ من الجاذبيّة ، عينان لامعتان تارةً بلونِ الموجِ وأخرى بلونِ التراب ، شعر قصير – نسبيّاً –
أسود بلونٍ الليل ، وعلاماتُ إرهاقٍ مُزمِنٍ تنبضُ بقوةٍ على مُحيّاه !
- فلنخرج الآن .
أفاقَت على صوتِ زميليها يسحبانها إلى الخارجِ ، شعرت بقلبها يكادُ يقفزُ من بين جوانحها ليرقدَ بجانبه
بالكادِ تماسكت حتى وصلت إلى غرفتها ..
نَظَرَت إلى صورتِها في المرآة ، فانبَغَتَتْ وقد انتابها شعورٌ بالغربةِ السحيقة وكأنها لم تألفْ هذا الوجهَ قط
انطفأ لمعان عينيها الخضراوين وقد ظهرت أسفلهما بعضُ التجاعيدِ - الناتجة عن الإجهادِ -
أضافت إلى عمرِها عشرَ سنوات ، لكنّ هذا كله لم يكن ليفسر شعورها الغريب !
أذرفت دموعها - التي لم ترغب في إظهارها - قسراً ، وخيّمَ صمتٌ لم يُقاطعه شيءٌ سوى أصواتِ أنفاسِها
حتى دوّى غواقُ ذاك الطائر الذيِ كانت قد اعتادَتْ على سماعِهِ حَدِيثاً ، لكنّه - هذه المرّة – بدا وكأنّه
انفجارُ قُنْبلةٍ مَوقوتةٍ طالَ انتظارُها له ؛ لم تبدُ عليها أماراتُ الفزعِ ووقفَتْ تبتسِمُ بمرارةٍ وعلى وجنتيها بقايا الدموع
تناولَتْ حبةً مُهدِئةً وارتمَتْ على فراشِها آملةً أن يَغلُبها النُّعاس ، ولو لهذه الليلةَ فقط ، ولتَتَأرَّقْ بعدَها عيناها إلى الأبدِ !
طفقتْ تتصفح بمخيّلتِها أياماً مضت .. في أولِ لقاءٍ لها به تملّكها شعورٌ بالفضولِ نحوه ، و وَدَت لو تعرِف
عنه كل شاردةٍ وواردة ، وربما كان السببُ في ذلك هالةَ الغموضِ التي تحصّن بِها والتي أدركت فيما بعدُ أنها
كانت من صُنْعِها هي ! أحسّتْ بشيءٍ يربطها به إذ رأت روحها - التي كانت تهرب منها وتخفيها تحت أقنعةٍ
عاجيّة - فيه ..
غمرتها راحةٌ لم تدرِ مصدرَها عندما علمتْ أنها المسئولة عن حالته ، واندفعتْ في حماسٍ شديدٍ تتعرفُ إليهِ
أكثرَ ، لكنّها لم تَعرِفَ منه إلا ما هو ورادٌ بملفِّهِ بالمصحّة - محض أشياء عامة ! ؛ كان حديثه معها صمتاً
تشوبه بضع كلمات لا تُغني ولا تُسمنُ من جوع إلا أن عينيه كانتا تنطقان بأقاصيصَ وحكايا ظنّت أنها
– هي فقط – تفهمها .. ظلّت تُحاوِل انتزاعَ الكلامِ من بين شفتيه وهي تعرفُ في قرارةِ نفسِها أنه لو كان
مريضاً آخر لسلّمته لأحدِ زملائها دون ترددٍ ؛ كان هناك ما ينتظرُها .. في أعماقِه ، أمرٌ ما يخصُّها يخفيهِ وراءَ
هذا البرودِ المُصطنع .. للحظةٍ أحسّت وكأنها تتحدثُ عن نفسها كأن هذا المريضَ ما هو إلا انعكاسٌ لها !! .....
نَفَضت تلك الذكرياتِ عن رأسها ، وتناولت حبة ثانية وأتبعتها بثالثة وقامت متجهةً إلى طاولةٍ صغيرةٍ عليها
من الكُتُبِ أكوامٌ اغبرّت من فَرطِ نسيانها ، أزاحت بعضَ ما عليها وجلست بكرسيٍّ أمامها
فشرعت تكتبُ تقاريرَ مَرْضَاها اليومية لتُبعدَ تلك الأفكارِ عنها .. كمن استجارَ من الرمضاءِ بالنار !
تَذكرت يوماً طرحت فيه حلمَ حياتها وآمالها وطموحاتها في إكمالِ دراساتها والغوص في جُبِّ النفسِ البشريّة
جانباً وقررت التخلّي عن عملها لمجردِ شعور لحظيّ باليأس ، ذهبت حينها لتودعه وتخبره بما أزمعت عليه
وهي – كالعادة – لا تعرف ما الذي يدفعها لهذا ، فوجئتْ بلسانِهِ يردد كلماتٍ مرّت على ذلك الشيء
القابعُ بداخلها قبلَ أن تمرَّ على أذنيها ...
- تَفُوحُ رائحةُ الوردِ ولو دُهِسَ ألفَ مرَّة .. وينبلجُ نور الطموح ولو دُفِنَ تحت الثرى ، وإن لم تسمحي له
بالظهورِ برغبتِكِ ، فسيظهرُ بقوةٍ رغماً عنكِ وعندها سيكون النور الذي يعمي لا ذلك الذي نبصر به الطريق .
- الطموحُ نبتةٌ بداخلنا إن لم تحصل على غذائها صبراً ، تحصلُ عليهِ ألماً وخوفاً أبديّاً ،
تتسلق على جدارِ الروح وتلتف حول العُنُق !!
نَطَق تلك الكلماتِ بانفعالٍ جعلها تشعرُ بأنَ أمراً مرَّ به أورثه تلك الكلمات وما عتم أن تأكدَ لها ذلك
عندما لمحت قطراتِ دموعٌ تلتمع في طرف عينيه ! ملأتها الدهشة ؛ ما يكون هذا الذي أثّرَ فيه بهذا الشكلِ
وربما كان هو السبب في أنه الآن نزيلٌ بمصحةٍ نفسيّة ؟! .. كان يجلسُ على كرسيِّهِ الهزاز في سكونٍ دون أن
يهتزَ مع حركتِه ، بدا كتمثالِ يقفُ مُنتصباً في شممٍ ومن خلفهِ يتوسطُ القمرُ خلفيّةً من غيومٍ وقد انعكست
أشعته في فوضى رائعة على وجهِ ذاك التمثال .. الفارسُ الذي لا يشقُّ له غبار ! ، وبينما هي تائهةٌ في خضم
تلك الدائرة عادَ التمثالُ إلى الحياةِ يرمقها بنظرةٍ ليست باللا مبالية وقد لاح على شفتيهِ شبحُ ابتسامةٍ
جعلتها تردُّ بمثلِها دون تردد ....
أمسكت برأسِها وراحت تهزها بِعنف .. تماماً كما كان يفعلَ عندما تأتيه تلك النوبةُ المُخيفة
أفرغت نصفَ مَا تحويه قنينةُ الحبوبِ المُهدئة وابتلعتها دفعةً واحدة ..
تدّفقت عليها الذكريات .. بعد هذا اليومِ بدأ يتحدثُ معها وكأن شعورها بترابطهما بدأ يسري إليه بطريقةٍ أو
بأخرى ! بدا تقاربهما واضحاً ؛ يتفقانِ في كل شيء و يتشاركانِ الأفكارَ ذاتها ، كانت كلما نظرتْ بداخلها
ازدادت يقيناً بأنهما روحٌ انقسمت بين جسدين وتأكدت من أن هواجسها - التي كانت تنعتها بالجنون -
حقيقةٌ لا محالة ! .. تأكدت من وجودِ القرين .. من وجودِه !
نظرتْ إلى مرآتها على الطاولة ورأسها لا زالت بين يديها ، وأخذت تَنظُرُ في الصورةِ المنعكسة أمامها بعمق
فعاودها مظهره وهو على نفس وضعيتها الآن ! رفعت المرآة وراحت تحطمها بيدها حتى تناثرت شراذم
الزجاج و تدفقَ الدمُ حاراً من جروحها إلا أنها لم تشعرْ به بسببِ هذا الوجعُ المحفور في نفسها و الذي لا يُنتج دمّاً !
- انتهى ! ... كل شيءٍ انتهى .
صرَخت بقوةٍ ورمت ما على الطاولةِ أرضاً مُحاوِلةً إخراجَ الألم بداخلها ، ذكراهُ لا زالت تداهمها قويةَ وكأنما
دارتْ رحاها أمس . بضعة أشهرٍ قلبتْ حياتها رأساً على عَقِبْ ، أحسّتْ فيها بما لم تختبرهُ من قبلِ بروحها تتجسدُ أمامها مباشرةَ !
ابتلعت ما تبقى من القنينة ووضعَت رأسَها بهدوءٍ على الطاولةِ دون أن تعطي بالاً لدمها الذي راحَ يسيلُ
على أرضيّة الغرفة ..
حاولتْ النهوض من مكانها فشعرت بدوارٍ شديد ، وراحت تتدافعُ الصورُ أمامها نابضةً بالحيوية
وانهمرت دموعها بين يديها فاختلطت بالدم .. وبدأت تصرخُ :
- حنانيك يا ذكرى !
اختلَّ توازُنها ووقعت .. شعرت بصدرها يعلو ويهبط بسرعةٍ تعجزُ عن ملاحقتها ، واحتقنَ وجهها بالدماء
فما كان منها إلا أن استسلمت بهدوء وما هي إلا لحظاتٍ حتى فقدَت وعيَها وهي تبتسمُ مُردِدَة ..
- قادِمة .. إني قادمة !