ابني ليس غبياً.. بل هم الأغبياء
فاضل العماني
قد تكون هذه القصة الملهمة، أفضل بداية لهذا المقال الذي يُحاول الوصول لقضية خطيرة جداً.
في سبعينيات القرن الثامن عشر، كان أحد الأطفال يكسب قوته اليومي بعمله كاتباً بأحد المتاجر بلندن. وكثيراً ما كان يضطر هذا الطفل الصغير للقيام في الساعة الخامسة صباحاً ليكنس متجر الملابس الجاهزة، ويقوم بعمل شاق ومرهق طوال أربع عشرة ساعة يومياً، لذا كان يكره هذا العمل ويحتقر نفسه كل يوم. وبعد عامين، لم يستطع تحمل هذا التعب الشديد، واستيقظ ذات صباح، ولم ينتظر حتى أن يتناول إفطاره، وسار على قدميه مسافة خمسة عشر ميلاً، ليتحدث مع أمه التي كانت تعمل خادمة في أحد المنازل. كان منفعلاً بشدة، وأخذ يتوسل إليها ويبكي، وأقسم أنه سيقتل نفسه لو أنه بقي في ذلك المتجر. وبعد مدة، كتب رسالة طويلة مفعمة بمشاعر الحزن والألم والحسرة إلى أحد معلميه القدامى، يخبره بحالته المزرية وعدم رغبته في الحياة. فما كان من ذلك المعلم، إلا أن قدم له بعض عبارات المدح والثناء والإطراء، وأكد له أنه شخص ذكي جداً وتنتظره حياة مليئة بالنجاح والتميز. وقد غير ذلك المدح مسار حياة ذلك الطفل، وترك أثراً بالغاً ودائماً عليه، بل وعلى تاريخ الأدب الإنجليزي والعالمي، حيث استطاع ذلك الطفل الذي كان على وشك الانتحار، أن يؤلف الكثير من الكتب الشهيرة التي كانت من أكثر الكتب مبيعاً، وحصل على الملايين من الدولارات، وحصد إعجاب الملايين من الناس في كل أنحاء العالم.
بالتأكيد، قد عرفته عزيزي القارئ. ذلك الطفل، هو هربرت جورج ويلز "١٨٦٦ – ١٩٤٦"، أحد أشهر مؤسسي أدب الخيال العلمي، وصاحب أشهر الروايات والمؤلفات التي تنتمي للقيمة الأدبية العالية، إذ لم تكن كتاباته مجرد سرد لحكايات ومغامرات، ولكنها تُقدم فكراً هادفاً.
إن طبيعة البشر، مهما كانت منطلقاتهم ومتبنياتهم وقناعاتهم، تواقة باستمرار للحصول على جرعات من المدح والإطراء والتقدير والاستحسان، وتنفر من كل مظاهر النقد والاعتراض والمواجهة والترصد. تلك هي الفطرة الطبيعية التي جُبل عليها البشر، لذا فقد أدركت المجتمعات المتحضرة أهمية وتأثير الدعم والتشجيع والتحفيز لكل مكوناتها وتعبيراتها المختلفة، خاصة الفئات الصغيرة والشابة.
نكاد نتفق جميعاً، بأن أكبر مشكلة تواجهنا في حياتنا، هي عدم قدرتنا على تغيير أنفسنا أو من هم حولنا، لأننا عادة نستخدم الطرق المعتادة وهي التركيز والإلحاح والتذمر من الجوانب السلبية بهدف تغييرها أو إصلاحها، ولكن المحاولات في هذا الاتجاه، عادة لا تنجح.
إن تغيير بعض العادات والقناعات والسلوكيات، أمر في غاية الصعوبة والتعقيد، خاصة حينما نُشهر سلاح النقد والاتهام والتجريح في وجوه الآخرين الذين نود ممارسة التغيير بحقهم. لا يوجد أسوأ من الشعور بالانتقاص والتقليل والإساءة والتحقير.
أعمل في مجال التعليم العام منذ سنوات طويلة، وأعرف جيداً وقع عبارات التشجيع والثناء والتقدير على مسامع بل قلوب التلاميذ، وكيف تعمل كالسحر في دفعهم للتميز والتفوق والإبداع، تماماً كما قد تُغير كلمة ثقيلة أو عبارة محبطة مسار طفل لتُسقطه في دائرة الرسوب والإخفاق والضياع.
وبشيء من الحقيقة المؤلمة، يُعاني مجتمعنا من تفشي ظاهرة "وأد الطموح" وسط أطفالنا وشبابنا، وذلك بسبب استخدامنا المفرط لعبارات الانتقاد والتقليل والانتقاص، ما يُفقد هذه الشريحة المهمة ثقتها بنفسها وقدرتها على صنع مستقبلها.
إن كلماتنا وعباراتنا، هي من تُحدد مستقبلنا، بل ومستقبل من حولنا. فكم من عبارة جارحة أدت إلى قتل إبداع ووأد طموح لطفل كان بإمكانه أن يكون أسطورة أو أيقونة، وكم من كلمة إطراء انتشلت شابة بائسة من براثن اليأس والإحباط والضياع؟
"وأد البنات" في العصر الجاهلي، كانت أبشع ظاهرة في تاريخ البشرية، ولكن يبدو أن هذه الظاهرة القبيحة مازالت مستمرة ولكن بأشكال وصيغ ومستويات مختلفة.
وكما بدأت بقصة ملهمة، أُفضّل أيضاً أن أختم بقصة أخرى، لا تقل إلهاماً وتأثيراً.
عندما كان صغيراً، لم يستكمل تعليمه الحكومي، فبعد أيام قليلة من الدراسة طُرد من المدرسة، وأرسلت خطابا لأمه هذا نصه: "من الأفضل لابنك أن يجلس في البيت لأنه غبي". فقالت الأم:
ابني ليس غبياً، بل هم الأغبياء.. واحتضنت ابنها قائلة له:
"لو كل الناس أنكروا ذكاءك يا صغيري فيكفيك أنني أؤمن به، أنت طفلي الذكي، دعهم وما يقولون واسمع ما أقول: أنت أذكى طفل في العالم". لذلك حينما كبر كان يقول دائماً: "ان أمي هي التي علمتني، لأنها كانت تحترمني وتثق بي، وأشعرتني بأننى أهم شخص في الوجود، فأصبح وجودي ضرورياً من أجلها، وعاهدت نفسي ألا أخذلها، كما لم تخذلني هي قط". لا أظن أحداً، لا يعرف ذلك الطفل! انه "توماس إديسون" مخترع المصباح الكهربائي.