﴿ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ . بعضُ العباقرةِ شقُّوا طريقهم بصمودٍ لإحساسِهم بنقصٍ عارضٍ ، فكثيرٌ من العلماءِ كانوا موالي ، كعطاءٍ ، وسعيدِ بن جُبيْرٍ ، وقَتَادَةَ ، والبخاريِّ ، والترمذيِّ ، وأبي حنيفة .
وكثيرٌ منْ أذكياءِ العالمِ وبحورِ الشريعةِ أصابهُم العمى ، كابن عباسٍ ، وقتادة ، وابنِ أمِّ مكتوم ، والأعمشِ ، ويزيدِ بنِ هارون .
ومن العلماء المتأخرين : الشيخُ محمدُ بنُ إبراهيم آل الشيخ ، والشيخُ عبدُاللهِ بنُ حميد ، والشيخُ عبدُالعزيزِ بنُ بازٍ . وقرأتُ عن أذكياء ومخترعين وعباقرةٍ عَرَبٍ كان بهمْ عاهاتٌ ، فهذا أعمى ، وذاك أصمُّ وآخرُ أعوجُ ، وثانٍ مُقْعدٌ ، ومع ذلك أثَّروا في التاريخ ، وأثَّروا في حياةِ البشريةِ بالعلومِ والاختراعاتِ والكشوفِ . ﴿ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ ﴾.
ليستِ الشهادةُ العلميةُ الراقيةُ كلَّ شيءٍ ، لا تهتمَّ ولا تغتمَّ ولا تضِقْ ذرْعاً لأنك لم تنلِ الشهادة الجامعية ، أو الماجستير ، أو الدكتوراه ، فإنها ليستْ كلُّ شيء ، بإمكانِك أنْ تؤثِّرَ وأنْ تلمع وأنْ تقدّم للأمةِ خيراً كثيراً ، ولوْ لمْ تكنْ صاحب شهادةٍ علميةٍ . كمْ منْ رجلٍ شهيرٍ خطيرٍ نافعٍ لا يحملُ شهادةً ، إنما شقَّ طريقه بعصاميَّتِهِ وطموحِه وهمَّتِه وصمودِه . نظرتُ في عصرِنا الحاضرِ فرأيتُ كثيراً من المؤثِّرين في العالمِ الشرعي والدعوةِ والوعي والتربيةِ والفكرِ والأدبِ ، لم يكنْ عندهمْ شهاداتٌ عالميةٌ ، مثلُ الشيخ ابن بازِ ، ومالكِ بنِ نبيٍّ ، والعقادِ ، والطنطاوي ، وأبي زهرة ، والمودوديِّ والندويِّ ، وجمعٍ كثيرٍ .
ودونك علماء السلفِ ، والعباقرة الذين مرُّوا في القرونِ المفضَّلةِ .
نفسُ عصامٍ سوَّدتْ عِصاما
وعلَّمتْهُ الكرَّ والإقداما
وعلى الضدِّ منْ ذلك آلافُ الدكاترةِ في العالمِ طولاً وعرضاً ، ﴿ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً ﴾. القناعةُ كَنْزٌ عظيمٌ ، وفي الحديثِ الصحيحِ : (( ارض بما قسم اللهُ لك تَكُنْ أغنى الناسِ )) .
ارضْ بأهلِك ، بدخْلِك ، بمرْكبِك ، بأبنائِك ، بوظيفتِك ، تجدِ السعادة والطمأنينة .
وفي الحديثِ الصحيحِ : (( الغِنى غِنى النفسِ )) .
وليس بكثرةِ العرضِ ولا بالأموالِ وبالمنصبِ، لكنَّ راحة النفسِ ، ورضاها بما قَسَمَ الله.
وفي الحديثِ الصحيحِ : ((إنَّ الله يحبُّ العبد الغنيَّ التقيَّ الخفيَّ)) . وحديثِ : ((اللهمَّ اجعلْ غناه في قلبِهِ )) .
قال أحدُهم : ركبتُ مع صاحبِ سيارةٍ من المطارِ ، متوجّهاً إلى مدينةٍ من المدنِ ، فرأيتُ هذا السائق مسروراً جذِلاً ، حامداً للهِ وشاكراً ، وذاكراً لمولاهُ ، فسألُه عن أهلِه فأخبرني أنَّ عنده أسرتين ، وأكثر منْ عشرةِ أبناءٍ ، ودخلُهُ في الشهرِ ثمانمائةِ ريالٍ فَحَسْبُ ، وعنده غُرفٌ قديمةٌ يسكنُها هو وأهلُه ، وهو مرتاح البالِ ، لأنهُ راضٍ بما قَسَمَ اللهُ لهُ .
قال : فعجبتُ حينما قارنتُ بين هذا وبين أناسٍ يملكونُ ملياراتٍ من الأموالِ والقصورِ والدورِ ، وهمْ يعيشون ضنْكاً من المعيشةِ ، فعرفتُ أن السعادة ليستْ في المالِ .
عرفتُ خَبَرَ تاجرٍ كبيرٍ ، وثريٍّ شهيرٍ عندهُ آلافُ الملايين وعشراتُ القصورِ والدورِ ، وكانَ ضيِّق الخُلُقِ ، شرس التعاملِ ثائر الطبع ، كاسف البالِ ، مات في غربةٍ عنْ أهلِه ، لأنهُ لم يَرْضَ بما أعطاهُ اللهُ إياه ، ﴿ ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ{15} كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيداً ﴾.
منْ معالمِ راحةِ البالِ عند العربيِّ القديمِ أنْ يَخْلُو بنفسِه في الصحراءِ ، وينفرد عنِ الأحياءِ ، يقولُ أحدُهم :
عوى الذئبُ فاستأنستُ بالذئبِ إذْ عوى
وصوَّت إنسانٌ فكِدْتُ أطِيرُ
وقد خرج أبوٍّ ذر إلى الربذةِ . وقال سفيانُ الثوريَّ : ودِدْتُ أني في شِعْبٍ من الشِّعابِ لا يعرفُني أحدٌ ! وفي الحديثِ : (( يُوشِكُ أنْ يكون خَيْرَ مالِ المسلمِ : غَنَمٌ يتبعُ بها مواقع القطرِ وشعف الجبالِ ، ويفرُّ بدينِه من الفِتنِ )) .
فإذا حصلتِ الفتنُ كان الأسلمُ للعبدِ الفرار منها ، كما فعل ابنُ عُمرَ وأسامةُ بنُ زيدٍ ومحمدُ بنُ مسلمة لما قُتِل عثمانُ .
عَرفْتُ أناساً ما أصابهمُ الفقْرُ والكدرُ وضيِقُ الصَّدْرِ إلا بسببِ بُعْدِهم عنِ اللهِ عزَّ وجلَّ ، فتجدُ أحدهم كان غنيّاً ورزقُهُ واسعاً ، وهو في عافيةٍ منْ ربِّه ، وفي خيرٍ منْ مولاه ، فأعرض عنْ طاعِة اللهِ ، وتهاون بالصلاةِ ، واقترف كبائر الذنوبِ ، فسلبَه ربُّه عافية بدنِه ، وَسَعَةَ رِزْقِهِ ، وابتلاهُ بالفقْرِ والهمِّ والغمِّ ، فأصبح منْ نكدٍ إلى نَكَدٍ ، ومنْ بلاءٍ إلى بلاءٍ ، ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً ﴾ ، ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ ﴾ ، وقوله تعالى : ﴿ وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ﴾ ، ﴿وَأَن أَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً﴾.
ودِدتُ أنَّ عندي وصفةً سحريَّة ألقيها على همومك وغمومِك وأحزانِك ، فإذا هي تلْقفُ ما يأفِكون ، لكنْ مِنْ أين لي ؟! ولكنْ سوف أخبرُك بوصفةٍ طبيَّةٍ منْ عيادةِ علماءِ الملَّةِ وروَّاد الشَّريعةِ ، وهي : اعبدِ الخالق ، وارض بالرزقِ ، وسلّمْ بالقضاءِ ، وازهدْ في الدُّنيا ، وقصَّرِ الأمل . انتهى .
عجبتُ العالِم نفسانٍّي شهيرٍ أمريكيٍّ ، اسمُهُ ( وليم جايمس ) ، هو أبو علِم النفسِ عندهم ، يقولُ : إننا نحنُ البشرُ نفكِّرُ فيما لا نملكُ ، ولا نشكرُ الله على ما نملكُ ، وننظرُ إلى الجانبِ المأسويِّ المظلمِ في حياتِنا ، ولا ننظرُ إلى الجانب المشْرقِ فيها ، ونتحسَّرُ على ما ينقصُنا ، ولا نسعدُ بما عندنا ، ﴿ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ ﴾ ، (( وأعوذُ باللهِ منْ نفسٍ لا تَشْبَعُ )) .
وفي الحديثِ : (( منْ أصبح والآخرةُ همُّه ، جمع اللهُ شمله ، وجَعَلَ غناه في قلبِه ، وأتتْه الدنيا وهي راغمةٌ ، ومنْ أصبح والدنيا همُّه ، فرَّق اللهُ عليهِ شمله ، وجعلَ فَقْرَهُ بين عيْنَيْه ، ولم يأتِه من الدنيا إلاَّ ما كٌتِب له )) . ﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾.