يُعتبَر زرادشت واحداً من أهم الشخصيات الدينية التي أثَّرت على مجرى الحياة الروحية عبر تاريخ الحضارة . ولا تكمن أهمية هذا النبي والمعلِّم الأخلاقي الكبير في مدى الانتشار الجغرافي والزماني للديانة الزرادشتية التي قامت على وحيه وتعاليمه بقدر ما تكمن في مدى تأثير أفكاره على الديانات العالمية اللاحقة .
رغم أننا نفهم من الأفستا الصغرى أن زرادشت عاش وبشَّر برسالته قبل عصر الإسكندر بثلاثة قرون ، إلا أن الباحثين في تاريخ الزرادشتية مختلفون في تاريخ ميلاد المعلِّم . أما عن المنطقة التي ولد بها المعلم وعاش سنوات يفاعه إلى أن جاءه وحي النبوة فإن الآراء تتفق على وقوعها في المناطق الشرقية المتطرفة والبعيدة عن المراكز الحضرية التي كانت تعيش على الرعي وتربية الماشية .
انخرط زرادشت منذ يفاعه في الكهنوت وصار كاهناً على دين قومه ( وهو دين هندإيراني شبيه بدين أسفار الـفيدا الهندية ). وكان ينتمي إلى فئة خاصة من الكهان تدعى زاوتار، يتميز أفرادها بسعة العلم والخبرة في الشؤون الدينية ، ولا يُرسَمون كهنة إلا بعد خضوعهم لتدريب طويل يتمرسون إبانه بشتى المعارف اللاهوتية والفنون الطقسية. غير أن هذا الكاهن ما لبث أن انشق على المعتقدات التقليدية التي نشأ عليها وأحدث انقلاباً دينياً كان له أعمق الأثر على الحياة الروحية لإيران وللإنسانية على حدٍّ سواء . فعندما كان زرادشت في الثلاثين من عمره جاءه وحيُ النبوة من السماء يأمره بالتبشير والدعوة إلى دين الله الحق . فبينما كان الكاهن الشاب يشارك في إحدى المناسبات الطقسية دعت الحاجة إلى بعض الماء ، فتطوَّع زرادشت لجلبه ومضى إلى النهر القريب حيث خوَّض حتى ركبتيه وملأ وعاءه . وبينما هو خارج من الماء ، تجلَّى له على الضفة كائن نوراني ، فخاف لدى رؤيته وهمَّ بالرجوع . ولكن الكائن كلَّمه وطمأنه قائلاً بأنه فوهو ماناه ، أحد الكائنات الروحانية الستة التي تحيط بالإله الواحد أهورا مزدا وتعكس مجده . ثم أخذ الملاك بيد زرادشت وعرج به إلى السماء حيث مَثُل في حضرة أهورا مزدا والكائنات الروحانية المدعوة بالأميشا سبنتا ؛ وهناك تلقَّى من الله الرسالة التي وجب عليه إبلاغها لقومه ولجميع بني البشر.
بعد تلقيه الرسالة انطلق زرادشت يبشر بها في موطنه وبين قومه مدة عشر سنوات ، ولكنه لم يستطع استمالة الكثيرين إلى الدين الجديد . فلقد وقف منه الناس العاديون موقف الشك والريبة بسبب ادعائه النبوة وتلقي وحي السماء ، بينما اتخذ منه النبلاء موقفاً معادياً بسبب تهديده لهم بعذاب الآخرة ، ووعده للبسطاء بإمكانية حصولهم على الخلود الذي كان وقفاً على النخبة في المعتقد التقليدي . ولما يئس النبي من قومه وعشيرته عزم على الهجرة من موطنه ، فتوجَّه إلى مملكة خوارزم القريبة ، حيث أحسن ملكها فشتاسبا استقباله ، ثم اعتنق هو وزوجته الزرادشتية وعمل على نشرها في بلاده . ولكن ملوك المناطق المجاورة طالبوا فشتاسبا بنبذ الزرادشتية والرجوع إلى دينهم التليد ، وانتهزوا الفرصة للإغارة على حدود بلاده ، فدخل معهم في حروب طاحنة خرج منها منتصراً . وبذلك تم فتح الطريق أمام الزرادشتية للانتشار التدريجي .
عاش زرادشت عمراً مديداً ووجد الوقت الكافي لنشر رسالته والعمل على تبسيط تعاليمه الأولى التي أوردها في الأناشيد ، وذلك بلغة تقرِّبها إلى أفهام عامة الناس وتستميلهم إليها . تزوج ثلاث مرات وأنجب ثلاثة ذكور وثلاث بنات ؛ وكانت ثالث زيجاته من ابنة الوزير الأول لمملكة خوارزم . بعد وفاة الملك فشتاسبا سادت الفوضى في المملكة وفقد زرادشت سنده وحاميه ؛ فكان عليه أن يكافح ويصمد بقواه الخاصة ؛ وهي مهمة حققها بنجاح بعد نضال شاق وطويل . إلى هذه الفترة العصيبة يرجع قانون العقيدة الزرادشتي الذي يجب على المؤمن فهمه وإعلانه لدى دخوله في الدين الجديد ، وفي مقدمته الشهادة التي تقول : "أشهد أني عابد للإله أهورا مزدا، مؤمن بزرادشت، كافر بالشيطان ، معتنق للعقيدة الزرادشتية ، أمجِّد الأميشا سبنتا الستة ، وأعزو لأهورا مزدا كل ما هو خير." لدى نطقه بهذه الشهادة يكون الفرد قد انسلخ عن الدين القديم وصار عضواً في جماعة المؤمنين .
ذاع صيت زرادشت في العالم القديم . فاعتبره الإغريق سيداً للحكمة وللمعارف السرَّانية ؛ وعزا إليه الفيثاغوريون تأثيراً مباشراً على معلِّمهم فيثاغوراس ؛ ونظر إليه فلاسفة الأكاديميا بإكبار وإجلال باعتباره مؤسِّساً لفلسفة الثنوية ؛ ثم رأت فيه المسيحية المبكرة مبشراً بقدوم السيد المسيح بسبب تعاليمه حول المخلِّص المنتظر الذي سيأتي في آخر الأزمان . وعندما ظهرت المدارس الغنوصية في سورية ومصر خلال القرون الأولى للميلاد وجدت في زرادشت واحداً من معلِّميها الكبا ر. ثم جاء ماني المعلِّم الثاني لمعتقد الثنوية ، فاعتبر زرادشت ثالث الأنبياء العظام الذين سبقوه ، إضافة إلى موسى ويسوع . وفي العصور الحديثة أصبح زرادشت موضع اهتمام الأوروبيين منذ عصر النهضة . وكان الفيلسوف الألماني نيتشه من أكثر الفلاسفة المحدثين إعجاباً به ، واستعار اسمه لحكيم كتابه هكذا تكلم زرادشت .
المعتقد الزرادشتي
يتميز المعتقد الزرادشتي بابتكاره لمفهوم الوحدانية الثنوية . وصفة الثنوية هنا لا تلغي صفة الوحدانية ، لأن مفهوم الثنوية الزرادشتي يقف في تعارض مع مفهوم التعددية ، ولكنه لا يتعارض مع الوحدانية ، بل يتلازم معها ؛ ذلك أنه يقدم أكثر التفسيرات منطقية لوجود الشر في العالم . فأهورا مزدا واحد لا ثاني له في الألوهة ، خالق كل ما هو خيِّر وحسن ، ولكنه ليس مسؤولاً عن وجود الشر في العالم ، ولم يكن ليرتضي وجوده منذ البداية ؛ بل لقد سعى إلى مكافحته بكل السبل والوسائل ؛ ولسوف ينتصر عليه في معركة تمتد على مدى تاريخ الكون والإنسان . وستشهد نهاية هذا التاريخ غلبة جند الحق على جند البهتان واختفاء الشيطان وأعماله إلى الأبد .