قصة قيس وليلى بوقائعها التاريخيه والحقيقيه
ليلى وقيس
لم تشتهر قصة غرام في الأدب العربي كما اشتهرت
قصة ليلى والمجنون. فقد أجمع الرواة على أن قصة
ذلك الحب العُذري العظيم الطاهر بين قيس بن الملوح
وليلى العامرية قد وقعت خلال العصر الأموي
(40-132 هـ أو 661-750 م) وقيل إن وفاة قيس
كانت بين (65 /68 هـ ـ 684/687م).
ولقد قرأت القصة بروايات مختلفة في عدد من المراجع،
وسألخص للقارئ من هذه المراجع (1- 15) أهم وقائع
قصة ذلك الحب العذري الخالد، وسأهمل الكثير من
الزيادات التي قد تكون موضوعة ولن يؤثر حذفها في
صلب القصة.
فاسم العاشق:
قيس بن الملّوح بن مزاحم بن قيس بن عدي بن ربيعة
بن جعدة بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة.
وقيل قيس بن معاذ العَقيلي.
واسم محبوبته:
ليلى بنتُ مهدي بن سعد بن مهدي بن ربيعة بن الحريش.
فهي وقيس من قبيلة واحدة قبيلة بني عامر بن صعصعة.
كان قيس بن الملوح جميلَ الوجه أبيضَ اللون، وكانت
ليلى جميلةً ومن أملحِ النساء وأحسنِهنّ جسماً وفضلاً
وأدباً وظرفاً.
لقد نشأ قيس وليلى في حي من أحياء بني عامر في نجد.
وذكر أغلب الرواة أن قيساً وقع في غرام ليلى منذ أن
كانا صبيين صغيرين يرعيان غنم أهلهما وما معها من
البَهْم، أي صغار الأغنام،
وقد دل على ذلك قوله:
تعلقتُ ليلى وهي ذاتُ تمائــمٍ ولم يبدُ للأترابِ من ثديها حجـمُ
صغيرين نرعى البَهم يا ليت أننا إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهـمُ
وقوله:
عشقتك يا ليلى وكنتِ صبيةً وكنتُ ابن سبعٍ ما بلغت ثمانيا
ولم يكن قيس يعرف الحب قبل ذلك، فاستحوذ حب ليلى
على عقله وقلــبه وثبت في القلب،
كما قال :
أتاني هواها قبل أن أعرف الهــوى فصادف قلباً فارغاً فتمكنــا
وكانت ليلى تبادله الحبَّ، وقد قالت له مرة:
كِلانا مُظهرٌ للناسِ بُغْضاً وكُلٌّ عندَ صاحبه مكينُ
تبلّغنا العيونُ بما أردنا وفي القلبينِ ثَمَّ هوىً دفينُ
ويروى أن بداية ظهور عشقه لليلى، أنه مر يوماً على ناقة
له بامرأة من قومه، وعندها نسوة يتحدثن، فأعجبهن،
فاستنزلنه للمنادمة، فنزل وجعل يقلب طرفه حتى وقع
على ليلى فلم يصرف عنها طرْفاً.
وشاغلته فلم يشتغل، ثم قال لها هل عندكم ما تأكلن،
قالت:
لا. فعمد إلى ناقته فنحرها وقطّعها، وجاءته لتمسك معه
اللحم فجعل يحز بالمُدية في كفه وهو شاخص فيها حتى
أدمى كفه، فجذبتها من يده ولم يدر. وأوقد ناراً لشواء
اللحم وطرح قطع اللحم فيها، ثم قال لها ألا تأكلين الشواء،
فقالت نعم، فطرح من اللحم شيئاً على الجمر وأقبل
يحدثها، فقالت له انظر إلى اللحم هل استوى أم لا؟
فمد يده إلى الجمر وجعل يقلب بها اللحم، فاحترقت يده
وهو لا يشعر، فلما علمت ما داخله، صرفته عن ذلك،
ثم شدت يده بهدب قناعها. ثم ذهب وقد تحكم عشقها
في قلبه
فقال:
أمرُّ على الديار ديارِ ليلى أقبِّلُ ذا الجدارَ وذا الجدارا
وما حبُّ الديارِ أهاج وجدي ولكنْ حبُّ من سكن الديارا
وقال :
وما الناسُ إلا العاشقون ذوو الهوى ولا خير فيمن لا يُحبُّ ويَعشقُ
وكان كثيرَ التردد على ليلى والحديث معها مع بقية بنات الحي،
وكان أظرفَ الفتيان وأرواهم لأشعار العرب، ولم يكن الجلوس
معها مستغرَباً آنذاك حيث إنه نشأ يلعب ويرعى الأغنام معها
صغيراً حسب بعض الروايات.
يقول الجاحظ في (رسالة القيان): "كانت الشرائف من النساء
يقعدن للرِّجال للحديث، ولم يكن النظر من بعضهم إلى بعض
عاراً في الجاهلية، ولا حراماً في الإسلام".
وكان قيس صادقَ الحبِّ متيماً بليلى التي استحوذت على عقله
وروحه وقلبه، وكان على استعداد لأن يضحيَ بحياته من أجلها
كما قال:
على مثلِ ليلى يقتلُ المرءُ نفسه وإن كنتُ من ليلى على اليأس طاويا(1)
إذا ما تمنى الناسُ روحاً وراحةً تمنيتُ أن ألقاكِ يـا ليـل خاليا
أرى سقماً في الجسمِ أصبح ثاوياً وحزناً طــويلاً رائحاً ثم غاديا
ونادى منادي الحبِّ أين أسيرُنا؟ لعلكَ ما تــزدادُ إلا تمــاديا
حملتُ فؤادي إذْ تعلق حبَّها جعلتُ له مـن زفرة الموتِ فاديا(2)
وقال:
أموتُ إذا شطتْ وأحيا إذا دنتْ وتبعثُ أحزاني الصَّبا ونسيمُها
فمن أجلِ ليلى تُولَعُ العينُ بالبكا وتأوي إلى نفسٍ كثيرٍ همومُها
كأن الحشا من تحته علِقتْ به يدٌ ذاتُ أظفارٍ فأدْمت كلومُها
وانصرف يوماً إلى منزله وبات الليلَ ساهرا شوقاً إليها، وأنشد
أبياتاً نسبها الرواة له ولكنها أبيات من شعر قيس بن ذريح
المعاصر له، تمثل بها
قائلاً:
نَهاري نَهارُ الناسِ حَتّى إِذا بَدا لِيَ اللَيلُ هَزَّتني إِلَيكِ المَضاجِعُ
أُقَضّي نَهاري بِالحَديثِ وَبِالمُنى وَيَجمَعُني وَالهَمَّ بِاللَيلِ جامِعُ
لَقَد ثَبَتَت في القَلبِ مِنكِ مَحَبَّةٌ كَما ثَبَتَت في الراحَتَينِ الأَصابِعُ
ورأى ليلى مرة بين الناس ولم يقدِر على أن يكلمها،
فقال:
إذا نظرت نحـوي تكلمَ طرْفُها وجاوبَها طرْفي ونحنُ سكوتُ
فواحدةٌ منـها تبشرُ بــاللِّقا وأخرى لها نفسٌ تكادُ تموتُ
إذا متُّ خوف اليأس أحيانيَ الرَّجا فكم مرةٍ قد متُّ ثمَّ حَييتُ
ولو أحدقوا بي الأنسُ والجنُّ كلُّهم لكي يمنعوني أن أجيءَ أتيتُ
وقال فيها:
أَشارَت بِعَينَيها مَخافَةَ أَهلِها إِشارَةَ مَحزونٍ بِغَيرِ تَكَلُّمِ
فَأَيقَنتُ أَنَّ الطَرفَ قَد قالَ مَرحَباً وَأَهلاً وَسَهلاً بِالحَبيبِ المُتَيَّمِ(3)
وودّعته مرة فقال:
ضعُفتُ عن التسليمِ يومَ وَدَاعِها فودعتها بالطـرفِ والعينُ تدمَعُ
وأُخرِستُ عن رد الجوابِ فمن رأى محبًّا بدمع العــينِ قبلي يُودّعُ؟
عليكِ سلامُ اللهِ مني تحــيةً إلى أن تغيبَ الشمس من حينِ تطلعُ
وقال:
وإن كان هذا البعدُ أخلفَ عهدَكم فحبـي لكم حتى المماتِ يزيدُ
ويقول الرواة إن قيساً ذكر أن والده أرسله يوماً إلى منزل
والد ليلى يطلب منه أدْماً لضيوف حلّوا عليهم، فأمر أبو ليلى
ابنته ليلى أن تخرج لقيس وأن تملأ إناءه سمْناً من زق.
فجعلت تصب السمن في إنائه وهما يتحدثان، فلم يشعرا
بالسمن وقد ملأ الإناء وفاض يسيل على أرجلهما التي
استنقعت في السمن.
كما ذكر أنه ذهب مرة لطلب نار من بيت ليلى فأخرجت
ليلى له النار في خرقة، ووقفا يتحدثان فلما احترقت الخرقة
قطع قطعة من ردائه وجعل النار فيها، واستمر يقطع من
ردائه وهما يتحدثان حتى لم يبق عليه إلا ما وارى عورته
بدون أن يدرك ما حدث.
فقصة إحراق ثوبه إن لم تكن من اختلاق الرواة، فقد تكون
وقعت له بعفوية وبراءة، ولكني أدرك أن قيس بن الملوح
كان متعمقاً في اللغة ومعانيها ومفرداتها التي صاغ منها
تلك القصائد الرائعة في الحب وخلجات القلوب.
ولم أعثر له على أبيات شعرية تصف تلك القصة لأنها
في الشعر قد تكون رمزية.
فإن كان قد ذكرها في أبيات مفقودة فقد يكون يقصد -
شعوريًّا أو لا شعوريًّا - أن احتراقَ ثوبِه يدل أو يرمز
لى احتراق بدنه أو نفسه أو قلبه من شدة الحب، حيث
إن الثياب لها كل تلك المترادفات في اللغة.
ففي المحيط في اللغة ذُكر أن العرب تكني بالثياب
عن الأبدان والنفس. وقد ورد في تاجالعروس أنه قد
يطلق الأثواب على لابسيها.
والعرب تكني بالثياب عن النفس لاشتمالها عليه.
ومن مترادفات الثوب القلب، وقد قال عنترة:
فَشَكَكتُ بِالرُّمحِ الأَصَمِّ ثِيابَهُ لَيسَ الكَريمُ عَلى القَنا بِمُحَرَّمِ
أي شككت جسمه أو قلبه، وهو من المجاز في اللغة.
وذكر في لسان العرب لابن منظور في تفسير
(وثيابَك فطهّر) أن أبا العباس قال: الثياب اللباس
ويقال للقلب.
الشرح:
1. الطاوي: ضامر البطن، الملتف، المنحني.
2. زفرة: تنفس
3. المتيم: الذي استعبده الهوى وأذهب بعقله.