التأمل في معين اياك نعبد واياك نستعين
بسم الله الرحمن الرحيم
التأمل في معين اياك نعبد واياك نستعين
بقلم : ع البنين
مقدمة :
التأمل : هو حالة من التفكر لتحفيز العقل والوعي والشعور الداخلي للإنسان الى الامعان والتمعن ومحاولة ايجاد تصور اوضح لمعاني كثير مما يحدث من حوله ، وما يحدث في الطبيعة والكون بأسره ، بطرق ووسائل شتى او بما تيسر من علم أو بحث أو دراسة ، أو بالاستدلال المنطقي في تفسير العديد من الظواهر والاشياء وايجاد تعريف لها بطريق منطقية. ويعد التأمل ايضا ظاهرة وسلوك في العلم القديم والتطور الحديث ، كما انه يعد من انماط الرياضات التي لا تتطلب مجهود بدني ، لكنه وسيلة ناجعة في تفريغ جسد الانسان وتحرير العقل من ضغوط الحياة وللتخلص من المتاعب ، من اجل الحصول على درجة مقبولة لراحة العقل والبدن ، ولينعم الانسان بمزيد من السعادة في الحياة ، من خلال اطلاق العنان للعقل والقلب للتخيل ، وللتأمل في رحاب سورة الفاتحة ، شأن عظيم في حياة الانسان ، كون ان السورة عماد للتأمل والحمد في القران الكريم . وهذه الوقفة التأملية اضعها بين يدي القارئ الكريم للوقوف وللتعرف على كل ما يمكن ان يتوصل به بالتأمل من نتائج جمة تفتح عقله وقلبه نحو افاق معاني السورة العظيمة . وما احب الاشارة اليه ان الطريقة التأملية قد تفرز معطيات توضيحية على النحو الذي يراد به الاستدلال والوصول الى معاني مفردات سورة الفاتحة ، وبطبيعة الحال لابد من الضرورة بمكان عدم الاعتماد على التفسير والقراءات مبدئيا ، وذلك من اجل ان الوصول في النهاية بدراسة تأملية منطقية تجمع بين التأمل والتفسير الموضوعي لسورة الفاتحة من مصادر متعددة في امهات الكتب والتفاسير والمراجع الموجودة والموثقة والربط بينهما للخروج بفائدة عظيمة من نتاج التأمل . واشير ايضا الى ان هناك فارق بيّن ، بين التأمل والتفسير الموضوعي مبدئيا ، اذ ان التفسير الموضوعي يعتمد على جهوزية المصدر والترجمة والايجاز السريع في ايضاح المعنى ، اما التأمل فهو عمل عقلي استدلالي يعتمد على التحليل والاطالة والمتابعة والاستنباط من اجل البحث لتأكيد العمل الذاتي والنفع منه . وهذا ما حدث تماما وبالضبط مع سيدنا ابراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم ، اذا كانت رحلته التأملية في الكون طويلة وذلك من أجل ان يستدل بعقله وقلبه على حقيقة هذا الكون العظيم وخالقه . اذ كان يعتقد في البداية التأملية ومما رأى ان القمر اله ، والشمس من بعد اله ، ومع افولهما وحقيقة ان جود الله دائم لا يغيب ، توصل بالدليل القاطع والبرهان ، ان الله حي عظيم حاضر لا يغيب ، فتبرأ من اعتقاده الاولى ومضى في التأمل ، و أمن برب العالمين دون ان يراه ، وتعد تجربة ابراهيم الخليل في التأمل اعمق النظريات التأملية القديمة وأنفعها على وجه الاطلاق ، كما اني اعتقد جازما ان " ابراهيم الخليل" عليه السلام أول المتأملين .
التأمل :
الحمد لله رب العالمين: اذ إن السموات والارض ومن فيهن والكون والافلاك والاجرام بأسرها بدأوا بالحمد والثناء على الله الرب . وهو جملة الايمان والشكر لله الرب والخضوع له وحده والاقرار بالألوهية . والعالمين : احتمالية ان يكون القصد جمع جمع العوالم بما فيها . وقد يكون القصد تثنية عالمي الانس والجن وتثنية عالم الانس والجن مع عالم الملائكة ، وقد يكون ايضا عوالم كل ما ذكر من ناحية مع عالم المخلوقات والجمادات أو الماديات الاخرى وفي النهاية نتوصل بالإقرار بان الله رب كل ما الله اوجده بالحمد والثناء ، حمدا يملأ نفسه بالكيفية والقدر المطلق الذي يقدره ويرتضيه وهو اهله سبحانه وتعالى . والجدير بالذكر ان حمد الله تعالى وتمجيده والثناء عليه من خلقه ومخلوقاته امتداده دائم غير منقطع ابدا .
" الرحمن الرحيم" اسمان من اسماء الله الحسنى ، وما ينبغي يجب الانتباه اليه وادراكه في الرحلة التأملية . التركيز الكلي بعدم الانشغال أو الغفلة عن ذكر جانب مهم وهو اسماء الله الحسنى وصفاته ، اذا انها والله اعلم ، قد تكون جميعها حاضرة في سورة الفاتحة ، ومرتبطة ببعضها في نسق التأويل أو التفسير وهو تصور حقيقي للعظمة ، في ان الله هو العظيم، وليس كمثل عظمته شيء مطلقا .
فالرحمنـ اسم الله الذاتي العظيم ودليل مطلق على رحمته الكبيرة العظمى والتي ليس كمثلها شيء من رحمة ، وسعت كل شيء ممن خلق . والرحيماسم الله الذاتي العظيم ودليل مطلق على رحمته الدنيا العظيمة والتي ليس كمثلها شيء من رحمة ، وسعت كل شيء ممن خلق. وفي اسمي الله " الرحمن الرحيم " ما يشير الى اسم الله الرؤوف الودود في الرحمة والمغفرة الواسعة ايضا لكل شيء ممن خلق . وفي اسمي الله الرحمن الرحيم ، المتناظران بالعدل والحق ، يستبصر الانسان العدالة الاسمية لله تعالى ـ وهو الحق المبين بما يليق ويتصف بجلاله المطلق . كما انه لا توجد في اسماء الله تعالى تضاد ابدا ، لكن التناظر يشير الى الكمال المطلق ، تماشيا مع وقوع مع ما يحدث في الحياة من احداث ، بأمر الله تعالى وبحوله وقدرته ، بما لا يتعارض مع قدرته بقضائه وقدره ، في خط كل ما كان يكون له بداية ونهاية .
" مالك يوم الدين " مالك " وهو الى ما سبق من ذكر لأسماء الله الحسنى ـ الله الرب الرحمن الرحيم الرؤوف الودود ، ان الله تعالى هو الملك الواحد الاحد الصمد الى يوم الدين ، وليس كمثله شيء في ملكه ولا نديد له سبحانه وهو الواحد الاحد المالك لكل شيء مادي ومعنوي ظاهرا وباطن ومستتر كان أو مختفي ، وهو بكل شيء عليم سبحان وغير الله غير مالك وغير عالم بكل شيء ابدا الى يوم القيامة .
" اياك نعبد واياك نستعين" : فبحكم ان الله تعالى الرب الرحمن الرحيم ، كما في السورة ، فإن عباد الله مذعنون اليه بالطاعة بعد الايمان بالربوبية لله سبحانه وفي ذلك اقرار من العباد بعبادة رب العباد وبكل اشكال العبودية من الذكر والصلاة واداء الفروض والواجبات والتسابيح . ابتغاء طاعة الله الرب الرحمن الرحيم ، الملك بأسمائه الحسنى الواردة صريحة في سوره الفاتحة ، والجدير بالذكر في التأمل ان ما من شيء الا يعبد الله ويسبح له اما بطاعة او بإجبار بعلمه وبقدرته وبما اودعه الله فيه سرا في النشأة الاولى والتكوين ، وان كان بعض ممن خلق اقر بكفره لله ، بالنفي والانكار لربوبيته . فالله تعالى قد علم صلاة كل شيء وتسبيحه ، اذ مما من شيء الا يسبح بحمده ويقدس له . و" اياك نستعين " : وهذا إقرارا مرتبط بالعادة وبالعبادة والدعاء ، في ان العباد يستعينون بحول الله الرب الرحمن الرحيم الملك ، في الحمد و العبادة . نظرا لا يمانهم الحق في ان الله هو القوي المعين على كل شيء لابتغاء الوصول الى ما يريدوه.
" اهدنا الصراط المستقيم" : وهذا اقرار يتبع ما قبله ، في ان العباد تطلب من الله تعالى ان يريهم ويهديهم باسمه الهادي الى الصراط المستقيم الذي يوصلهم الى الجنة يوم القيامة . والهادي لصراط الله تعالى بالنور الذي اودعه في القلوب لرؤية الصراط المستقيم . أفمن المعقول ان الصراط النوراني المستقيم الممتد الى هذه الدرجة من الدقة التي لا تتم فيها رؤيته يوم الدين ، وما الذي يحول الابصار ان تراه او تعلم حقيقته . فأظن والله اعلم ان هناك عدة اسباب تحول فئة من الناس يومئذ عن روية الصراط خلا من هداهم الله الى ابصاره ورؤيته ، اثر ايمان وهداية وتوفيق للذين اتم الله عليهم رضوانه ونور رحمته سبحانه وتعالى . ومن تلك الاسباب التأملية والله اعلم :
· اولا : ان الصراط المستقيم ـ وهو الطريق ـ ادق من الشعرة ، وأسن من حد السيف . كما روي .
· ثانيا : تواجد عدة صرط متفرقة يمنة ويسرة حول الصراط المستقيم ، يمر عليها كل من خلق الله .
· ثالثا : ان الناس يوم الدين تكون في حالة من الصدمة والذهول في مشهد يرونه ماثل بين ايديهم ، مغاير لما قد عرفوه في الدنيا ان تيسر لم التذكر آنذاك يوم الدين .
· رابعا : عالم الاخرة مختلف جدا عن عالم الاولى " الدنيا " فمن المنطق جدا ان توجد حالة الاختلاف هذه ، اختلال وعدم تركيز وتذكر العقول في واقع ذلك اليوم المشهود .
لكن هل حقا توجد عدة صرط تجعل من الصراط المستقيم غير مرئي لفئة من الخلق . وقد قيل من قبل في التفسير الموضوعي أنه لا يوجد سوى صراط واحد ـ طريق ـ او ممر واحد ، حشر عنده الخلق فالمؤمن يمر مرورا خاطف ويجتاز ، والكافر يسقط عنه الى جهنم . لم اقتنع بهذا قليلا ، كون الممعن المتأمل في اسلوب سرد الجملة ، يوضح معنى " اهدنا " صراحة ، للدلالة على طلب المعرفة والعلم بالمكان والارشاد الى جهته ، ومن بعد للثبات عليه وعدم الاختلال والتأرجح فيه ، وليس العكس . اما النكوب عن الصراط فيعني الابتعاد . يقال في اللغة : نكب فلان عن الطريق ، بمعنى حاد او ظل عنه وزاغ . وفي وجود عدد من الصرط قد تجعل المرء يعمد الى اختيار مسار خاطئ فيسلكه معتقدا انه المسار الصحيح فلا يصل الى مراده اذا ما ظل ملتزما ومستمرا فيه. ومما يؤكد بالتأمل انه يوجد عدد من الصرط ، ان عباد الله المؤمنين يدعون الله تعالى : أن يهديهم صراط الذين انعم الله عليهم . مستعينين باسم الله المنعم ذو الجلال والاكرام .
" صراط الذين انعمت عليهم " أي طريق المؤمنين الذين انعم الله عليهم بالهداية والمغفرة والرضوان . غير المغضوب عليهم " هذا يجعلن استشعر ان هناك صراط آخر للذين غضب الله عليهم . وصراط للضالين . فمنهم المغضوب عليهم ، والضالين ؟ وهم الذين عند الله علمهم وخبرهم . منذ أن خلق الله ادم ابو البشر عليه الصلاة والسلام ، ومسح اذ ذاك على ظهره وجعل منهم أمة كالذر يمشون . وقد قيل ان المغضوب عليهم : هم اليهود ، والضالين هم النصارى . والله اعلم ، ولو بقينا وابقينا على هذا التصور . افلا يوجد من الانس عربهم وعجمهم ومن الجن والامم الاخرى ، ومختلطي الاجناس من كل طائفة وعرق ولون "مغضوبين وضالين ".
ان فصاحة وبلاغة اللغة العربية تطرح تصورا فلسفي دقيق وعميق الشرح والوضوح امام العقل للتنبؤ والتأمل بالقران ببعض ما يمكن ان يكون ، ومن المفيد جدا قراءة تفسير اهل العلم الى جانب التأمل لمعرفة كثير من الامور العقلانية ، ومما لاشك فيه انه ليس بالتأمل وحده فحسب يمكن التوصل الى تلك الامور العقلانية النورانية ، بيد انها طريقة لإعمال العقل والتفكر والاستبصار والاستدلال الى استنباط كل القيم المثالية العظيمة العليا في كل ما اوجده الله المتعال . وللوصول بالبحث المعرفي الى كل الحقائق النورانية لتدعيم الايمان بالله تعالى في العقل والقلب معا وللاحتفاظ بكل ذلك المخزون المعرفي ودلائله لفترة اطول من عمر الانسان . مع العلم ان التأمل يطرح كثيرا من التساؤلات من خلاله تتداعى على القلب والعقل معا لمعرفة كثير من الحقائق المتصلة بعلم الوجود والايمان به.
الخاتمة :
انني لا ادع الى القيام بعزل وتعطيل التفسير الموضوعي والاستغناء عنه وفصله واستبداله بالتأمل والوقوف عليه فحسب ، بل يجب الاخذ بالتفسير الموضوعي كعلم يفيد في العمل ، واللجوء الدائم الى التأمل العقلاني على صراط مستقيم ، واذا ما اشكل امام الانسان شيء من المعرفة ، وجب عليه اللجوء الى علم القران والراسخون في العلم في التفسير لتبيان الحق امام ما اشكل عليه ، لتستقيم الامور بالحق ونور والمعرفة . وان عمل العقل مرتبط دوما بالتفكر والتأمل والاستنباط والاستدلال والربط بين كثير من المعايير من اجل افهام القلب بحقائق امور حثيثة في الحياة . وان من المسلم به ان العقل يتحمل قيادة الذات ومسئولية كل الامور المتعلقة بحياة الانسان ومآله عن القلب ، لان الاخير قد يميل الى ، وعن امور عدة ، متوافقة ومخالفة للعقل تتعلق بحياة ومصير ذلك الانسان . ويضل الانسان في رحلة طويلة مع القراءة والتفكر والتأمل من اجل المعرفة والاستزادة من الخير ، مادام انه حريص على ذلك الامر. لم تنقطع رحلة الاستمتاع والاستدلال بالتأمل في معين اياك نعبد واياك نستعين . رجوت أن اضع بين يدي القارئ الكريم هذا العمل كي تعم الفائدة للجميع . وسيستكمل هذا الموضوع لاحقا و الحمد لله رب العالمين