التفسير المختصر - سورة النصر : نعوة النبي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علمتنا و زدنا علماً و أرنا الحق حقاً و ارزقنا اتباعه، و أرنا الباطل باطلاً و ارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، و أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الأخوة المؤمنون:يقول الله عز وجل : ﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً (3)﴾
( سورة النصر )
قال ابن عباس:إن هذه السورة نعوة النبي عليه الصلاة والسلام، العظماء ليس لهم مطامح شخصية، ولا مصالح فردية، فإذا أدوا رسالتهم انتهت مهمتهم، دخل الناس في دين الله أفواجاً، أشهد أنك أديت الأمانة، وبلغت الرسالة، ونصحت الأمة، وكشفت الغمة، وجاهدت في الله حق جهاد، وهديت العباد إلى سبيل الرشاد، شعور الإنسان حينما يأتي إلى الدنيا ويتعرف إلى الله ويجعل طاعته كل همه، وخدمة خلقه كل همه، ونشر الحق كل همه، هذا الإنسان حينما يأتيه ملك الموت يعيش في سعادة لا توصف، لأنه أدى الأمانة وبلغ الرسالة، استفاد من عمره الثمين، أيعقل أن يقسم الله خالق الكون، يقسم قال تعالى :
﴿ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1)﴾
( سورة الشمس )
وقوله أيضاً :
﴿ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1)﴾
( سورة البروج )
وقال :
﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1)﴾
( سورة الليل )
أما أن يقسم خالق الكون بعمر النبي، قال تعالى:
﴿ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)﴾
( سورة الحجر )
يقسم بهذا العمر الذي ما ضيع منه ثانية واحدة، ولا شغلته الدنيا عن الآخرة، حتى حينما كان صغيراً دعي إلى اللعب فقال عليه الصلاة والسلام وهو طفل صغير:أنا لم أخلق لهذا، جاءته الرسالة، رسالة التوحيد، قالت له السيدة خديجة:خذ قسطاً من الراحة، فقال كلمة تقشعر لها الأبدان، قال:يا خديجة انتهى عهد النوم، قام وشمر، قال تعالى :
﴿ طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3)﴾
( سورة طه )
لو أحدنا سأل نفسه أنا ماذا قدمت، حينما يأتيني أجلي ما العمل الذي أعرضه على الله، يا رب صنعت جبصين ولكنه رائع جداً وهو أفخر شيء، أو كان عندي مزرعة يا رب، مسبح مفلتر، والآن احكي لنا عملك عند الموت لا يحكى في المسبح ولا في الفيلا ولا في التجارة ولا في المركبة، لا يقال إلا في العمل الصالح، ماذا فعلت لا صدقة ولا جهاد بماذا إذاً ستلقى الله ؟ ما العمل الذي تقدمه بين يدي الله عز وجل ؟ هل ربيت أولاداً تربية عالية فكانوا أناساً صالحين، هل ساهمت في ميتم في معهد شرعي، هل تبنيت داعية، ماذا قدمت من جهدك في خدمة الخلق ؟ لذلك متى يدخل الناس في دين الله افواجاً، إذا كان المؤمن خير، المؤمن معطاء، المؤمن فهم دينه فهماً حقيقياً، هناك حالة والعياذ بالله يخرج الناس من دين الله أفواجاً، كلما خيب إنسان ظناً بالدين يخرجون، أي كل من يعمل في الحقل الديني إذا لم يكن هناك أعلى درجة من الكمال والطهر والنزاهة والاستقامة والصدق إذا لم يكن كذلك، يخرج الناس من دين الله أفواجاً، أغلب الظن إذا وجدت إنسان شارد اسأله، يقول لك:أنا كرهت الدين من أجل فلان، سبب نفوره من الدين هو فلان، فبين أن يدخل الناس في دين الله أفواجاً وبين أن يخرج الناس من دين الله أفواجاً، إن هذا الدين كما ورد في الأثر القدسي قد ارتضيته لنفسي، ولا يصلحه إلا السخاء وحسن الخلق، فأقيموه بهما ما صحبتموه، يعني أخ من إخواننا وضع ابنه عند شخص لأن الشخص بدأ يستقيم ويمشي بالدين لم يسمح لابنه أن يأخذ ساعة إجازة منه حتى لا يقول استغل الدين، أحد إخواننا يحضر هذا الدرس موظف في دائرة حول الجامع، قدّم لمدير الدائرة إجازة ستة أيام، قال له:ليس لدينا وقت، قال له:أنا مستهلكها، قال له:وكيف ذلك، قال له:أنا أصلي كل يوم ربع ساعة جمّعتهم أصبحوا ستة أيام، قال له المدير:أنت في أي جامع ومن شيخك، قال لي:والله يا أستاذ في الجمعة الثانية جاء إلى الدرس في النابلسي هذا المدير العام، لماذا جاء؟ لأنه وجد إنسان نزيه، واحد حاسب نفسه على كل يوم نصف ساعة وجمّعهم وأخذ إجازة بهم، إجازته السنوية، وهو يصلي، صلى وقت الوظيفة، أنا لا أقول لكم أن تفعلوا ذلك لا، ما الذي جاء بالمدير العام إلى الجامع ؟ إنه تصرف هذا الموظف الورع، بالورع ترقى، بالأمانة بالاستقامة بالنزاهة بالصدق، فأنت بيدك، الصلاة لا تدخل الناس في دين الله أفواجاً، أما الصدق فهو يدخل الناس والأمانة، الصلاة عماد الدين لكن وحدها لا تكفي لابد من استقامة معها، قال تعالى:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)﴾
( سورة فصلت )
وقال أيضاً :
﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)﴾
( سورة فصلت )
أنت مخير إذا أحببت أن تدخل الناس في دين الله أفواجاً كن كاملاً، وهل تحب أن تخرجهم أفواجاً استغل الدين للمصالح الشخصية، ضع الدين بالوحل، ارتزق بالدين، حينما تفعل ذلك عندها يخرج الناس من دين الله أفواجاً، قال الإمام أبو حنيفة رأى طفل أمامه حفرة، قال له:إياك يا غلام أن تسقط، كان هذا الطفل نبيهاً جداً، قال له:بل إياك يا إمام أن تسقط، إني إن سقطت سقطت وحدي، وإنك إن سقطت سقط معك العالم، وزلة العالِم سقوط العالَم معه، لأنه قدوة ومثل أعلى، وأنت كأب قدوة، بابا قل لهم لست هنا، ماذا فعلت مع ابنك، علمته الكذب صار أكبر كذاب سيقول لك لم أجدهم، أين النقود ؟ سيقول لك وقعوا مني، مع أنه صرفهم، أنت علمته الكذب، قلت له:قل أنا لست هنا، قال لك:وقعت مني النقود، شيء مخيف الدين قال:
(( عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى الْخِلاَلِ كُلِّهَا إِلاَّ الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ))
فمجرد أن تكذب أو أن تخون انتهى الدين، قال الرسول الكريم :
(( عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:مَا خَطَبَنَا نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلاَّ قَالَ:لاَ إِيمَانَ لِمَنْ لاَ أَمَانَةَ لَهُ وَلاَ دِينَ لِمَنْ لاَ عَهْدَ لَهُ))
فالتعليق على قوله تعالى :
﴿وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً (2)﴾
( سورة النصر )
ذات مرة صحابي أثناء الهجرة قبض عليه الكفار فقال لهم:والله إن أطلقتموني عهداً لكم لا أحاربكم ما حييت، وصل إلى المدينة وبلّغ النبي والنبي فرح به، هذا الصحابي نسي، بعد ثلاث سنوات صار في غزوة ففرح لأنه سيجاهد، قال له:ألم تعاهدهم ارجع، هذا الدين، مادمت عاهدتهم انتهى، فإذا نحن صدقنا، استقمنا، كنا ورعين، كنا أعفة، لم نحتال على أحد، صلينا، أصبحت الصلاة عظيمة، أصبحت الصلاة تاج، أمّا صلينا، مثلاً واحد يريد الذهاب إلى الحج ويضع ماله عند شخص دخل إلى المسجد وجد شخص يغمض عينيه ويتعصور قال:هذا والله أفضل شخص خشوعه ممتاز، قال له:والله أنا أريد أن أذهب إلى الحج وأضع معك أمانة، قال له:والله أنا أيضاً صائم، قال له: ولكن والله أنا صيامك لم يعجبني، فالتظاهر بالدين شيء خطير جداً، النبي وصف الأتقياء الأخفياء :
(( عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ خَرَجَ يَوْمًا إِلَى مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قَاعِدًا عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبْكِي فَقَالَ:مَا يُبْكِيكَ ؟ قَالَ:يُبْكِينِي شَيْءٌ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:إِنَّ يَسِيرَ الرِّيَاءِ شِرْكٌ وَإِنَّ مَنْ عَادَى لِلَّهِ وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَ اللَّهَ بِالْمُحَارَبَةِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الأَْبْرَارَ الأَْتْقِيَاءَ الأَْخْفِيَاءَ، الَّذِينَ إِذَا غَابُوا لَمْ يُفْتَقَدُوا، وَإِنْ حَضَرُوا لَمْ يُدْعَوْا، وَلَمْ يُعْرَفُوا، قُلُوبُهُمْ مَصَابِيحُ الْهُدَى يَخْرُجُونَ مِنْ كُلِّ غَبْرَاءَ مُظْلِمَةٍ ))
تقي خفي يرجو رحمة الله، فإذا أردت أن تدخل الناس في دين الله أفواجا كن صادقاً، قال له:عندك بيض، سمان في زملكا، قال له:عندي، قال له:طازجة ؟ قال له:لا غير طازجة، عند جاري طازجة، هذا هو الصدق، هل عندك الجرأة بأن لا تكذب إطلاقاً ولا بكلمة، عندها تصبح مؤمن وتدخل الناس في دين الله أفواجاً، واحد تزوج امرأة من دون علم الأولى، الأولى شعرت أن وضعه قد تغير، تتبعته علمت أنه متزوج لم تتكلم شيئاً، توفي وهي الزوجة الأولى ومن ورعها جمعت التركة، وأرسلت لضرتها حقها من التركة من الميراث وهي لم يعلن زواجها، قالت لها:والله البارحة وقبل أن يموت بيومين قد طلقني، وأرجعتهم، هذا هو الدين، قال له:بعني هذه الشاة وخذ ثمنها، قال له:ليست لي، قال:قل له ماتت أو أكلها الذئب، وخذ ثمنها قال له:والله إنني لفي أشد الحاجة إلى ثمنها، ولو قلت لصاحبها ماتت أو أكلها الذئب لصدقني، لأنني عنده صادق أمين، ولكن أين الله؟ هذا هو الدين كله، هذا البدوي الراعي، يمكن ليس عنده ثقافة إطلاقاً، ليس لديه مكتبة في خيمته، ولا مسجلة، ولا الشارقة، ولا صحن، عنده هذا الورع، والذي عنده معلومات الثقلين وغير ورع ليس له قيمة، وضع يده على جوهر الدين، جوهر الدين الورع، هذا هو الورع، فأنت عندما تكون ورع يكون الدين إلى الله سالك، صار هناك رضى من الله، صار هناك إقبال على الله عز وجل، قال تعالى:
﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً (3)﴾
( سورة النصر )
والحمد لله رب العالمين