قريش وهجرة الصحابة إلى المدينة
هجرة الصحابة إلى مكة
واضح أن هجرة الصحابة من مكة إلى المدينة لم يكن أمرًا بسيطًا؛ بل كانت الهجرة تعني البذل والعطاء والتعب والنصب؛ ولكنها على العموم نجحت، واستطاع غالب الصحابة والصحابيات أن يصلوا إلى المدينة، وقد كان معظم الهجرة في شهري المحرَّم وصفر من السنة الرابعة عشر من النبوة؛ أي بعد بيعة العقبة الثانية بشهر واحد أو أقل.
ولم يبقَ في مكة إلا القليل جدًّا من الصحابة منهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وعائلته، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكان بقاؤهما بأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا بالإضافة إلى المستضعفين من المسلمين[1]، الذين لم تكن لهم القدرة على الهجرة مثل عبد الله بن عباس وأُمِّه رضي الله عنهما [2].
تأثر قريش بهجرة الصحابة
وكانت قريش ترقب الموقف على وجل؛ فإنها صارت تُفاجَأ كل يوم بهجرة رجل أو رجلين أو عائلة؛ بل إن بعض الفروع من القبائل قد هاجرت بكاملها، وخلت كثير من ديار مكة من سكانها، وقد أثَّر ذلك في قريش وزعمائها، فما منهم من أحد إلا وله قريب أو ابن مهاجر؛ مما مزَّقهم بين الحُبِّ الفطري لأبنائهم وأقاربهم وبين كراهيتهم وتغيُّظهم على هذا الدين، الذي تسبب في هذا الفراق، وكان من أبلغ الأمثلة على هذا التمزُّق ما رُوِي عن ابن إسحاق في أمر هجرة آل جحش رضي الله عنهم.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ وهو يسرد أسماء المهاجرين إلى المدينة: "ثُمَّ عبد الله بن جحش بْنِ رِئَابِ بْنِ يَعْمُرَ بْنِ صَبْرَةَ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَثِيرِ بْنِ غَنْمِ بْنِ دُودَانَ بْنِ أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ، حَلِيفُ بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، احْتَمَلَ بِأَهْلِهِ وَبِأَخِيهِ عَبْدِ بْنِ جَحْشٍ، وَهُوَ أَبُو أَحْمَدَ -وَكَانَ أَبُو أَحْمَدَ رَجُلاً ضَرِيرَ الْبَصَرِ، وَكَانَ يَطُوفُ مَكَّةَ، أَعْلاَهَا وَأَسْفَلَهَا، بِغَيْرِ قَائِدٍ، وَكَانَ شَاعِرًا، وَكَانَتْ عِنْدَهُ الْفرعة بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ [3]، وَكَانَتْ أُمُّهُ أُمَيْمَةَ بِنْتَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ- فَغُلِّقَتْ دَارُ بَنِي جَحْشٍ هِجْرَةً، فَمَرَّ بِهَا عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، والعباس بن عبد المطلب، وَأَبُو جَهْلِ بْنِ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَهِيَ دَارُ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ الْيَوْمَ الَّتِي بِالرَّدْمِ [4]، وَهُمْ مُصْعِدُونَ إلَى أَعَلَى مَكَّةَ، فَنَظَرَ إلَيْهَا عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ تَخْفِقُ أَبْوَابُهَا يَبَابًا [5]، لَيْسَ فِيهَا سَاكِنٌ، فَلَمَّا رَآهَا كَذَلِكَ تَنَفَّسَ الصُّعَدَاءَ، ثُمَّ قَالَ:
وَكُلُّ دَارٍ وَإِنْ طَالَتْ سَلاَمَتُهَا *** يَوْمًا سَتُدْرِكُهَا النَّكْبَاءُ وَالْحُوبُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَهَذَا الْبَيْتُ لأَبِي دُؤَادٍ الإِيَادِيِّ [6] فِي قَصِيدَةٍ لَهُ، وَالْحُوبُ: التَّوَجُّعُ، (وَهُوَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: الْحَاجَةُ، وَيُقَالُ: الْحُوبُ: الإِثْمُ).
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ قَالَ عُتْبَةُ: أَصْبَحَتْ دَارُ بَنِي جَحْشٍ خَلاَءً مِنْ أَهْلِهَا! فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: وَمَا تَبْكِي عَلَيْهِ مِنْ قُلِّ بْنِ قُلٍّ [7]. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْقُلُّ: الْوَاحِدُ. قَالَ لَبِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ:
كُلُّ بَنِي حُرَّةٍ[8] مُصِيرُهُمْ *** قُلُّ وَإِنْ أَكْثَرَتْ مِنَ الْعَدَدِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ قَالَ[9]: هَذَا عَمَلُ ابْنِ أَخِي هَذَا، فَرَّقَ جَمَاعَتَنَا، وَشَتَّتْ أَمْرَنَا وَقَطَعَ بَيْنَنَا"[10].
تخوفات قريش من هجرة الصحابة
فهذه صورة من النزاع الفكري والتشتُّت الذي عاشته مكة نتيجة هجرة المسلمين إلى المدينة، ولم يكن هذا فقط هو الهاجس الذي يُغضب الكافرين؛ ولكنهم كانوا يخافون كذلك من انتشار الإسلام في الجزيرة؛ لأن هذا قد يسلب قريشًا زعامتها التي تكتسبها من رعايتها للكعبة؛ لأن الإسلام -أيضًا- يدعو لتعظيم البيت الحرام، وقد يُصبح المسلمون هم الرعاة لبيت الله الحرام في حال هزيمة قريش في نزال محتَمل، بالإضافة إلى أن دعوة الإسلام ستُؤَثِّر حتمًا على اقتصاد مكة؛ لأن تعاليمه ستقضي مع مرور الزمن على تجارة بيع الأصنام والخمور والربا والبغاء.
ولم يكن يخفى على قريش أن الهجرة الأخيرة تمَّت كلُّها إلى المدينة، وليس إلى الحبشة أو أي مكان آخر، بدليل ذهاب أبي جهل لإرجاع أخيه عياش بن أبي ربيعة رضي الله عنه من هناك، فوضح للمشركين أن المسلمين يُهاجرون لبناء أُمَّة مسلمة في المدينة، ولو تمَّ ذلك فلا شكَّ أنهم سيعودون إلى مكة يومًا ما، لا لمجرَّد السكن فيها؛ ولكن لحكمها، ووقت يحكمونها فلن يقبلوا أن يظلَّ العرب وغيرهم يتحاكمون إلى هُبَل وسدنته؛ بل سيُحَكِّمون ربَّ العالمين كما عَلَّمهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم طوال ثلاثة عشر عامًا قضاها في مكة لهذا الغرض؛ ولذلك كان المشركون في أشدِّ حالات اضطرابهم وقلقهم.
أضف إلى ذلك علم أهل قريش ببأس الأوس والخزرج، وأنهم من أهل القتال، أو بتعبير البراء بن معرور رضي الله عنه: "فَنَحْنُ أَهْلُ الْحُرُوبِ وَأَهْلُ الْحَلْقَةِ، وَرِثْنَاهَا كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ". وكان القرشيون يعلمون كذلك أن المدينة حصينة جدًّا، وأنها تقع على طريق القوافل التجارية لأهل قريش والمتجهة من وإلى الشام؛ ومن ثمَّ فإنها تستطيع أن تخنق مكة اقتصاديًّا، ومكة كانت تتاجر بربع مليون دينار ذهبًا سنويًّا مع الشام في رحلة الشتاء[11].
وفوق كل ذلك فالطامَّة الكبرى لو آمن اليهود، وانضمَّت قوَّتهم إلى قوَّة المسلمين، وقد كان اليهود ذوي قوَّة كبيرة عسكريًّا وماديًّا، والعقل كان يُرَجِّح إسلام اليهود؛ لأنهم أهل كتاب ويُؤمنون بالأنبياء، غير أن اليهود لا عقل لهم!
كلُّ هذه الأمور جعلت أهل قريش في حيرة من أمرهم، وقد علموا أنه كلَّما مرَّ الوقت اقتربت ساعة الصفر التي سيغزو فيها المؤمنون مكة؛ لكن زعماء قريش كانوا يُدركون -أيضًا- أن ساعة الصفر هذه لن تكون إلا بعد أن يُهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ويُوَحِّد صفوفه، ويُجَهِّز جيوشه، ثُمَّ يأتي من جديد إلى مكة. إذن فحجر الزاوية في الموضوع هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، والوسيلة الوحيدة لوقف خطر المؤمنين الداهم هو السيطرة عليه صلى الله عليه وسلم، ولكن كيف؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم من بني هاشم القبيلة العزيزة الشريفة؟