عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُفِّنَ فِي أَثْوَابٍ بِيضٍ يَمَانِيَةٍ , لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلا عِمَامَةٌ .
الراوي:عائشة أم المؤمنين المحدث:مسلم المصدر:صحيح مسلم الجزء أو الصفحة:941 حكم المحدث:صحيح
في الحديث مسائل :
1= في رواية للبخاري ومسلم : فِي ثَلاَثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ .
وفي رواية له : كُفِّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي ثَلاَثَةِ أَثْوَابِ سَحُولَ .
وفي رواية لمسلم : في ثلاثة أثواب بيض سحولية مِن كُرسُف ليس فيها قميص ولا عمامة ، أما الْحُلّة فإنما شُبّه على الناس فيها أنها اشتريت له ليُكفّن فيها فتُركت الْحُلة وكُفِّن في ثلاثة أثواب بيض سحولية ، فأخذها عبد الله بن أبي بكر فقال : لأحبسنها حتى أكفِّن فيها نفسي ، ثم قال : لو رضيها الله عز وجل لنبيه لكَفَّنه فيها ، فباعها وتصدّق بثمنها .
2= صِفة كفنه صلى الله عليه وسلم ، وأن سيّد ولد آدم كُفِّن كما يُكفَّن سائر الناس ، وفي هذا :
أ – تواضعه عليه الصلاة والسلام ، وأنه لم يُوص بأن يُميّز بِكَفَن أو بِمكان عن الناس .
ب – حقارة الدنيا ، حيث لم يخرج منها عليه الصلاة والسلام إلاَّ بقماش أبيض .
3= استحباب التكفين بالكفن الأبيض .
قال عليه الصلاة والسلام : الْبَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمْ الْبَيَاضَ ، فَإِنَّهَا مِنْ خَيْرِ ثِيَابِكُمْ ، وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ . رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي ، وقال : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ . ورواه ابن ماجه ، وصححه الألباني والشيخ شعيب الأرنؤوط .
وبوّب الإمام البخاري : باب الثياب البِيض للكفَن .
قال ابن عبد البر : وأما الفقهاء فأكثرهم يَستحبون في الكَفن ما في هذا الحديث ، وكلهم لا يَرون في الكفن شيئا واجبا ولا يُتعدّى ، وما ستر العورة أجزأ عندهم مِن الحي والميت .
4= استحباب التواضع في الكفن ، وكراهية المغالاة في الكفن .
روى الإمام البخاري مِن طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ، قالت – وهي تُحدِّث عن وفاة أبي بكر رضي الله عنه - : فنظر إلى ثوب عليه كان يُمَرّض فيه به رَدْع مِن زعفران ، فقال : اغسلوا ثوبي هذا وزيدوا عليه ثوبين فكفنوني فيها ، قلت : إن هذا خَلِق ! قال : إن الحي أحق بالجديد مِن الميت ، إنما هو للمُهْلَة .
ورواه ابن سعد في " الطبقات " وابن أبي شيبة والإمام أحمد . ورواه مالك عن يحيى بن سعيد بلاغا .
قال العيني : قوله : " به رَدْع " ، أي : بهذا الثوب الذي عليه رَدْع، بفتح الراء وسكون الدال المهملة وفي آخره عين مهملة : وهو اللطخ والأثر ...
وقوله : " إنما هو للمُهْلَة " ، بضم الميم وهو : القيح والصديد . اهـ .
ورَوى عبد الرزاق من طريق صِلة بن زُفر قال : أرسلني حذيفة بن اليمان ورجلا آخر نشتري له كفنا ، فاشتريت له حُلّة حمراء جيدة بثلاث مائة درهم ، فلما أتيناه قال : أروني ما اشتريتم ، فأريناه فقال : رُدّوها ، ولا تُغَالوا في الكفن ، اشتروا لي ثوبين أبيضين نقيين ، فإنهما لن يُتركا عليّ إلاّ قليلا حتى أُلْبس خيرا منهما ، أو شَرًّا مِنهما .
وأما ما رواه مسلم من حديث جابر مرفوعا : إذا كَفّن أحدكم أخاه فليُحسن كَفَنه ؛ فهذا له سبب ، وهو : أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوما ، فَذَكَر رجلا من أصحابه قُبِض فكُفّن في كفن غير طائل ، وقُبر ليلا ، فزجر النبي صلى الله عليه وسلم أن يُقْبر الرجل بالليل حتى يُصلى عليه إلاَّ أن يُضطر إنسان إلى ذلك ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : إذا كَفّن أحدكم أخاه فليُحسن كَفَنه .
وإحسان الكَفن لا يعني المبالغة في الكفن ؛ لأنه سيُسْلَب سريعا ، كما قال أبو بكر وحذيفة رضي الله عنهم .
وأوْرَد ابن عبد البر ما جاء عن بعض الصحابة في عدم المبالغة في الكفن ، ثم قال : وليس في هذا كله دَفع لحديث جابر عن النبي قال : " إذا كَفّن أحدكم أخاه فليحسن كفنه " ، ولا ما يُعارضه ، لأنه يحتمل حديث جابر هذا هيئة التكفين بدليل قوله : " إن الله عز وجل يحب من عبده إذا عمل عملا أن يُتقنه ويُحسنه " على أن مَن كفّن أخاه في ثوب نقي أبيض أو ثياب بيض ؛ فقد أحسن . والبالي والجديد في ذلك سواء . اهـ .
وقال ابن حجر : يُجمع بينهما بِحمل التحسين على الصفة ، وحَمْل المغالاة على الثمن . اهـ .
5= يَحرم تكفين الميت في حرير ، مع وُجود ما يُكفّن فيه مِن غير الحرير ؛ لأن الحرير حرام لبسه على الحي فكيف يُلبسه الميت ؟!
قال ابن عبد البر : وقد أجمع العلماء على كراهية الْخَزّ والحرير للرجال في الكَفن ، ومنهم مَن كَرهه للرجال والنساء في الكفن خاصة . اهـ .
6= يُكره تكفين الميت بثوب مصبوغ .
كَرِه الإمام مالك أن يُكفّن رجل أو امرأة في مُعَصْفَر إلاَّ أن لا يُوجد غيره . نَقَله الباجي .
7= رواية " كُفِّن في ثلاثة أثواب " تُقيِّد الرواية التي أوردها المصنِّف : " كُفِّن في أثواب بيض يمانية " .
والمقصود بالثوب : ما يُلبس ، سواء كان مُفصّلا على هيئة البدن ، أو لم يكن مُفصّلا ، وسيأتي في حديث ابن عباس رضي الله عنهما في تكفين الْمُحْرِم : وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْن ، وفي رواية : وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْه .
فما يلبسه الْمُحْرِم يُسمّى ثوبا ، وإن كان إزارا ورِداءً .
8= يجوز الاقتصار على ثوب أو ثوبين في الكفن ، بشرط أن تكون ساترة للعورة .
قال الإمام البخاري : باب الكفن في ثوبين . ثم روى حديث ابن عباس رضي الله عنهما في تكفين الْمُحْرِم : وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْن .
قال ابن عبد البر : قال أبو حنيفة وأصحابه : أدنى ما تُكفّن فيه المرأة ثلاثة أثواب ، والسنة فيها خمسة أثواب ، وأدنى ما يُكفّن فيه الرجل ثوبان ، والسنة في ثلاثة أثواب .
وقال الأوزاعي والثوري : يُكفَّن الرجل في ثلاثة أثواب ، وتكفن المرأة في خمسة أثواب ، وهو آخر قول الشافعي ، وقول أحمد وإسحاق وأبي ثور .
وقال : وأجمعوا على انه لا يُكفن في ثوبٍ يَصِف ، والمصبوغ كله غيره أفضل منه . وبعد هذا فما كُفِّن فيه الميت مما يَستر عورته ويُواريه أجزأه .
9= هذا كله في كَفَن البالغ ، وأما الطفل ، فإنه يُكفَّن في أقل من ذلك .
روى ابن أبي شيبة من طريق يونس عن الحسن ، قال : يُكفّن الفَطِيم والرَّضيع في الْخِرْقة ، فإن كان فوق ذلك كُفِّن في قميص وخرقتين .
وروى من طريق فضيل عن إبراهيم ، قال : يُكفَّن السِّقْط في خرقة .
10= مِن كُرسف : هو القطن . وأما السَّحولية فهي البِيض .
وقد قيل : إن سّحول قرية باليمن تُصنع فيها ثياب القطن ، وتُنسب إليها . قاله ابن عبد البر .
وقال ابن الأعرابي : هي بِيض نَقيّة مِن القطن خاصة . قال : والسَّحل الثوب النقي مِن القطن . نَقَله القاضي عياض في " مشارق الأنوار " .
فيكون قولها رضي الله عنها : " في ثلاثة أثواب يمانية بِيض سَحولية " من باب زيادة البيان ، أو مِن باب ذِكْر الخاص بعد العام ، فذِكر اليمن عام ، وذِكْر سَحول خاص .
لأنه يُمكن حَمْل البِيض على معنى " سَحول " ، ويُمكن حَمْل " سَحول " على " يمانية " .
قال ابن الأثير في " النهاية " في مادة " سحل " : يُروى بفتح السين وضَمّها، فالفتح منسوب إلى السحول ، وهو القصّار ؛ لأنه يَسحلها : أي يَغسلها ، أو إلى سَحول وهي قرية باليمن . وأما الضم فهو جمع سحل، وهو الثوب الأبيض النقي ، ولا يكون إلاّ مِن قُطن وفيه شذوذ لأنه نسب إلى الجمع ، وقيل : إن اسم القرية بالضم أيضا.
11= الكفن يُقدَّم على قضاء الدَّين .
قال عيسى بن دينار : والكفن من رأس المال يجبر الغرماء والورثة على ثلاثة أثواب مِن رأس مال الميت تكون وَسطا .
قال ابن عبد البر : قول عيسى في هذا الباب كله حسن ، وجمهور الفقهاء على أن الكفَن مِن رأس المال ، ومن قال إنه من الثلث فليس بشيء ؛ لأن مصعب بن عمير لم يترك إلاّ نَمِرة قصيرة كَفّنه فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يلتفت إلى غريم ولا وارث .
12= قولها رضي الله عنها : " ليس فيها قميص ولا عمامة " لا مفهوم له ، فيجوز أن يُكفَّن الميت بعمامة إذا كانت تستر عورته ويُواريه .
قال النووي : وقولها : " ليس فيها قميص ولا عمامة " معناه لم يُكفّن في قميص ولا عمامة ، وإنما كُفِّن في ثلاثة أثواب غيرهما ، ولم يكن مع الثلاثة شيء آخر ، هكذا فسّره الشافعي وجمهور العلماء ، وهو الصواب الذي يقتضيه ظاهر الحديث قالوا : ويُستحب أن لا يكون في الكفن قميص ولا عمامة . وقال مالك وأبو حنيفة : يُستحب قميص وعمامة ، وتأوّلوا الحديث على أن معناه : ليس القميص والعمامة مِن جملة الثلاثة وإنما هما زائدان عليهما ، وهذا ضعيف ، فلم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم كُفّن في قميص وعمامة ، وهذا الحديث يتضمن أن القميص الذي غُسّل فيه النبي صلى الله عليه وسلم نُزع عنه عند تكفينه ، وهذا هو الصواب الذي لا يتجه غيره ، لأنه لو بَقي مع رطوبته لأفْسَد الأكفان .
والله تعالى أعلم .