قبل حوالي الخمسة أعوام إنطلقت ثورة الزنبق في بلاد الشام، ثورة خرج فيها شباب بروعة زهر الزنبق يقولون بأعلى صوتهم "لا" لكل ظلم وقهر وتجبر بكل أنواعه وأشكاله وشخوصه.
تلك التي إلتقينا في إحدى جولاتنا في مخيم الزعتري بعض من خرج فيها، ممن كانت الحسرة الممزوجة بالقهر تسابق كلماتهم وهي تخبرنا بأن أكبر أمنياتهم هي العودة للموت فوق تراب بلادهم ولكن بعزة وكرامة، بتلك العزة والكرامة التي سلبت عنوة من كثيرين ينتمون لشعب طالما كان عنواناً لها على مر التاريخ، تلك التي ثار لأجلها الأحرار وفقدوا كل شئ لأجلها، والتي لا يمكن لإنسان أن يعيش حياة كريمة بدونها.
وبعد كل هذه التضحيات المريرة لم تكن أكبر مآسي هؤلاء صنوف العذاب والقهر الذي وجدوه من النظام الحاكم في بلادهم فقط، ولا باستعانته بكل من يساعده في سبيل سحقهم وإبادتهم، بل وبعمل ذلك النظام على شق صفوف كل معارضيه ولو كان ذلك بأن يخرج لهم من ينادي بإقامة دولة الخلافة الإسلامية على حساب حياة كل مخالفيه، وبإظهار هذه الخلافة بمظهر المتعطشة لدماء ورقاب الآخرين، بل وحتى ولو كان بجر المنطقة بأكملها إلى حروب وويلات جديدة في سبيل ذلك، وكأن كل ما جرى ويجري في بلاد الشام الجريحة منذ عشرات السنين من مجازر يشيب لها شعر الولدان ليس كافياً، كما فعل الصهاينة عندما إجتهدوا في شق صفوف الفلسطينيين والجلوس بعد ذلك متفرجين على ذبحهم وقتلهم لبعضهم البعض ومن ثم القضاء على كل قوة متبقية لديهم.
ونتذكر هنا عندما كنا نجلس في إحدى المرات في بدايات الثورة مع مجموعة من الشباب من أشقائنا من بلاد الشام الغالية، وكان أحدهم يدافع بقوة عن إحدى الجهات المقاتلة على الأرض السورية المطالبة بحكم إسلامي في البلاد، وعندها توجهنا لذلك الشاب بسؤال صغير: فليكن كل ذلك صحيحاً بأن هذه الجهة ما جاءت إلا نصرة لبلاد الشام وأهلها المظلومين ورفع الظلم عنهم، لكن أليس من الظلم لهم أيضاً إجبارهم على رؤيتها وخياراتها شاء من شاء وأبى من أبى منهم؟
لا ندري حقيقة هل كانت الثورة السورية تحتاج من يزيد في قمعها وتشتيتها، ترى هل نسي كل من يريد فرض خياراته على الشعب السوري كل ما عاناه ويعانيه هذا الشعب من قهر وظلم عبر عشرات السنين لم يسمح له فيها بفتح فمه بابداء رأيه، وهل ينسى من يتحدثون بحكم إسلامي بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى إثنا عشر عاماً بين قومه يدعوهم للإسلام ويتحمل إهاناتهم وإساءاتهم لعل الله يهديهم للإسلام، وأكثر من ذلك لم يشهر السيف في وجه أهل المدينة الذين إستقبلوه ونصروه ليجبرهم على إقامة الدولة الإسلامية بينهم وقتل كل من يرفض ذلك، بل كان ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة التي أمره ربه بها عليه أفضل صلاة وأتم تسليم.
ترى هل فكر شباب داعش ومن بفكرهم ممن يريدون زرع الشجرة من رأسها بالويلات التي جلبوها على بلاد العرب والمسلمين وهي لا تكاد تنتهي من حرب حتى تدخل في غيرها، ترى هل فكر هؤلاء الشباب المغرر بهم لحظة كيف يمكن أن يكون تحرير أرض فلسطين وطرد المحتلين الصهاينة من خلال التفجير والترهيب في أرض الحرمين وغيرها من بلاد العرب والمسلمين وقتل أهلها الآمنين في بيوت الله !
ألم تفكروا للحظة يا شباب داعش في مجتمعاتكم هل كانت بحاجة لخروج داعش بينها لنشر القتل والذبح حتى أصبح الأب يكره أن يلعب طفله بالسيف من كثرة ما يشاهد من دم وذبح أمامه، أم أنها كانت بحاجة إلى أمثالكم لتكونون "دافش" كما يقولون بالعامية، يدفش ويدفع ويفيد مجتمعه بما يمتلك من إبداعات وتميز، أم أننا نسينا قول الله عزوجل في الآية 33 من سورة الإسراء: {{ ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا}}، فالمظلوم منصور باذن الله ولو بعد حين يا شباب الأمة ولا إسراف في قتل النفس التي حرم الله دمها، فما ذنب من يصلي في بيت الله طالباً الرحمة منه أن يأتي من يفجره فيه، فلا والذي رفع السماء بلا عمد ما كنت جنة الله بتفجير بيوته ولا قتل عباده الواقفين بين يديه.
ووالله الذي لا إله إلا هو لا يكتب هذه السطور إلا من هو محباً لكل إنسان يحمل بين جنباته قلباً صادقاً صافياً تم التغرير به من قبل من لا يخافون الله ولا يرجون عقابه، ولا يرضى أن يرى دم بشر مسلم كان أو غير مسلم ولا حتى دم أي مخلوق ولو من غير البشر يراق بغير وجه حق، فكفانا دماً نستحلفكم برب الكعبة، كفانا إعطاء الفرصة للتغطية على جرائم النظام وما يفعله بشعبه كل يوم وإظهاره بأنه يحارب الإرهاب بينما هو أساس كل إرهاب وفتنة وقتل ظهرت في أرض الشام بإجرامه وطغيانه، كفانا فرقة وتشتيتاً وإساءة لمن بعثه الله رحمة للعالمين، ولنتفكر في وقوفنا بين يديه يوم القيامة ماذا سيقول لنا عما نفعله من إساءات باسمه عليه الصلاة والسلام وإسم دين الإسلام دين المحبة والسلام الذي جاء به.
تفكروا جيداً يا شباب العرب والمسلمين قبل أن تدخلوا في حروب لن يكون طائل منها سوى مزيد من دماء العرب والمسلمين وإمعاناً في تشتيت أهلها وتمزيق بلادها وهوانها وذلها بين الأمم، فأمتكم بحاجة إليكم وإلى إبداعاتكم ليكون كل منكم "دافش" لها لا "داعش"، فلا تجعلو من أنفسكم سيوفاً مسلطة فوق رقاب أهليكم وأوطانكم وأمتكم.
ويا أصحاب القرار في بلاد العرب والمسلمين نهمس في أذنكم من جديد وسنظل نرددها ما بقي في الحنجرة من نفس، أن تزيدوا حرصكم على إبداعات شبابكم التي تضيع هدراً وتعملوا على إستيعابها وإعطائها الفرصة والحفاظ عليها، قبل أن تحبط ويستغلها عديمي الضمير من أعداء الأمة ويحولونها إلى التطرف والارهاب، فأوطاننا بحاجة لكل جهد فيها صغر صاحبه أو كبر، وعليها أن تتسع لابداعات الجميع إن كنا نريد أن نتقدم ونكون في مصاف الأعزاء الأقوياء في هذا العالم ممن يختارون ما يريدون من أنظمة الحكم بكل إستقلالية وعزة وكرامة بإختيارهم هم وبدون وصاية من أحد عليهم.
م. عبدالرحمن "محمدوليد" بدران