قال صلى الله عليه وسلم { مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل
الجسد إذا
اشتكى منه عضوتدعى له
سائر الجسد بالسهر والحمى (صحيح مسلم برقم 4685) }
هذا الحديث الشريف رواه كل من البخاري, ومسلم, وأحمد ابن حنبل (رحمهم الله أجمعين) عن النعمان بن بشير (رضي الله عنهما) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, والنص أعلاه لفظ مسلم, أما لفظ البخاري (5552) فيقول:"ترى المؤمنين في تراحمهم, وتوادهم, وتعاطفهم كمثل
الجسد إذا
اشتكى منه عضو
تداعى له
سائر جسده بالسهر والحمى".
ورواية أحمد (17654) جاءت بالنص التالي :
"مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل
الجسد إذا
اشتكى منه شيء
تداعى له
سائر الجسد بالسهر والحمى".
وفي بحث علمأي دقيق لطبيب مسلم (هو الدكتور ماهر محمد سالم) أوضح جانبًا من جوانب الاعجاز العلمي في هذا الحديث الشريف لم تدركه العلوم المكتسبة إلا منذ سنوات قليلة, ومن ذلك أن شكوى العضو المصاب هي شكوى حقيقية, وليست على سبيل المجاز؛ إذ تنطلق في الحال نبضات عصبية حسية من مكان الإصابة أو المرض على هيئة استغاثة إلى مراكز الحس والتحكم غير الإرادي في الدماغ وتنبعث في الحال أعداد من المواد الكيميائية والهرمونات من العضو المريض بمجرد حدوث ما يتهدد أنسجته وخلايا وقمع أول قطرة دم تنزف منه, أو نسيج يتهتك فيه, أو ميكروب يرسل سمومه إلى أنسجته وخلاياه, تذهب هذه المواد إلى مناطق مركزية في المخ فيرسل المخ إلى الأعضاء المتحكمة في عمليات الجسم الحيوية المختلفة أمرًا بإسعاف العضو المصاب وإعانته بما يتلاءم وإصابته أو مرضه.
وفي الحال تتداعى تلك الأعضاء المتحكمة في عمليات
الجسد الحيوية المختلفة أي يدعو بعضها بعضًا فمراكز الإحساس تدعو مراكز اليقظة والتحكم في تحت المهاد (في المخ) وهذه تدعو بدورها الغدة النخامية لإفراز الهرمونات التي تدعو باقي الغدد الصماء لإفراز هرموناتها التي تدعو وتحفز جميع أعضاء الجسم لنجدة العضو المشتكى, فهي شكوى حقيقية, وتداع حقيقي, وليس على سبيل المجاز, ومعنى التداعي هنا أن يتوجه كل جزء في
الجسد بأعلى قدر من طاقته لنجدة المشتكي وإسعافه, فالقلب – على سبيل المثال – يسرع بالنبض لسرعة تدوير الدم وإيصاله للجزء المصاب, في الوقت الذي تتسع الأوعية الدموية المحيطة بهذا العضو المصاب وتنقبض في بقية الجسم, لتوصل إلى منطقة الإصابة ما تحتاجه من طاقة, وأوكسجين, وأجسام مضادة وهرمونات, وأحماض أمينية بناءة لمقاومة الإصابة, والعمل على سرعة التئامها, وهذه هي خلاصة عمل أعضاء الجسم المختلفة من القلب إلى الكبد, والغدد الصماء والعضلات وغيرها, وهي صورة من صور التعاون الجماعي لا يمكن أن توصف بكلمة أبلغ ولا أشمل ولا أوفى من التداعي .
وهذا التداعي يبلغ درجة من البذل والعطاء عالية إذ يستدعي من الأعضاء والأجهزة والأنسجة والغدد المتداعية أن تهدم جزءًا من مخزونها من الدهون والبروتينات من أجل إغاثة العضو المشتكى, ويظل هذا السيل من العطاء مستمرًا حتى تتم عملية الإغاثة, وتتم السيطرة على الإصابة أو المرض, والتئام الأنسجة والخلايا الجريحة أو المريضة, حتى يبرأ
الجسد كله أو يموت كله.
وهذه الحقائق لم يصل العلم البشري المكتسب إلى إدراك شيء منها إلا منذ سنوات قليلة, والسبق
النبوي بالإشارة إليها في هذا الحديث الجامع هو من الشهادات على أنه صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلم, وأنه صلى الله عليه وسلم كان موصولاً بالوحي, ومُعَلمًا من قِبَل خالق السماوات والأرض؛ لأنه لا يمكن لعاقل أن يتصور صدورًا لهذا العلم
النبوي من غير وحي السماء, هذا العلم الذي نطق به نبي أمي صلى الله عليه وسلم من قبل ألف وأربعمائة سنة, في أمة كانت غالبيتها الساحقة من الأميين, وفي زمن لم يكن فيه لأي إنسان إلمام بأقل قدر من هذه المعارف العلمية.
وإبراز مثل هذه الجوانب العلمية في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم , وفي آي القرآن الذي أوحى إليه هو أنسب أسلوب للدعوة إلى دين الله الخاتم في زمن النهضة العلمية والتقنية التي يعيشها إنسان اليوم, زمن المواجهات الحضارية والمقارنات الدينية, والصراعات السياسية, والعرقية والدينية وتقارب المسافات , وسرعة الاتصالات , ونحن مطالبون بالتبليغ عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم , الذي أوصانا بقوله الشريف : "بلغوا عني ولو آية , فرب مُبَلَّغ أوعى من سامع".
فصلاة الله وسلامه عليك يا سيدي يا رسول الله, يا من آتاك الله القرآن ومثله معه, وآتاك جوامع الكلم فجاءت أحاديثك الشريفة بهذا السبق العلمي المبهر, وبهذه الصياغة اللغوية الدقيقة حتى في مقام التشبيه, وأنت تدعو أمتك – خير أمة خرجت للناس – إلى التواد والتراحم والتعاطف – وما أحوجنا إليها اليوم – فتأتي صياغة دعوتك بتشبيه طبي علمي بالغ الدقة والإحكام, وبالغ الروعة في البيان, فصلى الله وسلم وبارك عليك وعلى آلك وصحبك أجمعين, وجزاك عنا وعن الإسلام والمسلمين خير الجزاء, والحمد لله رب العالمين