مكارم الأخلاق (3)
بسم الله الرحمن الرحيم
مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم .. سنة الأنبياء، وصراط العقلاءِ، ومختار النبلاءِ، ومجد الفضلاء .. عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ -رَضِي اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاَقِ) [البيهقي]
من القصص الدالة على وفاء العرب، قصة وفاء السَمَوأْل بأدرع امرئ القيس .. فامرؤ القيس كان من أشهر شعراء العرب على الإطلاق. يماني الأصل، وكان أبوه ملك أسد وغطفان. وأمه أخت المهلهل الشاعر، فلقنه المهلهل الشعر، فقاله وهو غلام، وجعل يشب ويلهو ويعاشر صعاليك العرب، فبلغ ذلك أباه، فنهاه عن سيرته فلم ينته. فأبعده إلى حضرموت، موطن آبائه وعشيرته، وهو في نحو العشرين من عمره. فأقام زهاء خمس سنين، ثم جعل يتنقل مع أصحابه في أحياء العرب، يشرب ويطرب ويغزو ويلهو، إلى أن ثار بنو أسد على أبيه وقتلوه، فبلغ ذلك امرأ القيس وهو جالس للشراب فقال: "رحم الله أبي! ضيعني صغيرا، وحمّلني دمه كبيرا، لا صحو اليوم، ولا سكر غدا! اليوم خمر وغدا أمر!".
ونهض من غده فلم يزل حتى ثأر لأبيه من بني أسد، وقال في ذلك شعراً كثيراً. وكانت حكومة فارس ساخطة عليه فأوعزت إلى المنذر ملك العراق بطلب امرئ القيس، فابتعد، وتفرق عنه أنصاره، فطاف قبائل العرب حتى انتهى إلى السَمَوأْل، فأجاره. ثم رأى أن يستعين بالروم على الفرس. فقصد الحارث بن أبي شمر الغساني والي بادية الشام فسيره هذا إلى قيصر الروم في القسطنطينية، فولاه فلسطين، ولقبه «فيلارق» أي الوالي، فرحل يريدها. فلما كان بأنقرة ظهرت في جسمه قروح، وما لبث أن توفي؛ ولذلك عُرف بذي القروح، وكذلك: الملك الضليل.
أما السَمَوأْل الأزدي فشاعر جاهلي حكيم. من سكان خيبر (في شمال المدينة) كان يتنقل بينها وبين حصن له سماه (الأبلق). أشهر شعره لاميته التي مطلعها:
ذا المرء لم يدنس من اللؤم.. عرضه، فكل رداء يرتديه جميل
وهي من أجود الشعر
من وفائه أن امرأ القيس لما أراد الخروج إلى قيصر استودع السموأل دروعا فلما مات امرؤ القيس غزاه ملك الشام (الحارث بن أبى شمر الغسانى) فتحرز منه السموأل، فأخذ الملك ابنا له وكان خارجا من الحصن، فصاح الملك بالسموأل فأشرف، فقال: "هذا ابنك في يدي، وقد علمت أن امرأ القيس ابن عمي ومن عشيرتي وأنا أحق بميراثه، فإن دفعت إلي الدروع وإلا ذبحت ابنك"، فقال أجلني فأجله فجمع أهل بيته نساءه فشاورهم، فكل أشار عليه أن يدفع الدروع ويستنقذ ابنه، فلما أصبح أشرف عليه، فقال: "ليس إلى دفع الدروع سبيل، فاصنع ما أنت صانع" فذبح الملك ابنه وهو مشرف ينظر إليه ثم انصرف الملك بالخيبة راجع.
وكان العرب أمة نشأت على الأنفة، فلم تخضع لحكومة أجنبية ولم تألف الرق والعبودية واستعباد الإنسان للإنسان مثل الأمم المعاصرة لهم، الذين حرموا من إبداء الرأي فضلاً عن النقد وإبداء الملاحظة، يأنفون من الذل ويأبون الضيم والاستصغار والاحتقار.
قال عنترة:
لا تسقني ماء الحياة بذلة ... بل فاسقني بالعز كأس الحنظل
ماء الحياة بذلة كجهنم ... وجهنم بالعز أطيب منزل
روي أنه جلس (عمرو بن هند) ملك الحيرة لندمائه وسألهم: هل تعلمون أحداً من العرب تأنف أمه خدمة أمي؟ قالوا: نعم أم عمرو بن كلثوم الشاعر الصعلوك.
فدعا الملك عمرو بن كلثوم لزيارته، ودعا أمه لتزور أمه، وقد اتفق الملك مع أمه أن تقول لأم عمرو بن كلثوم بعد الطعام: ناوليني الطبق الذي بجانبك، فلما جاءت قالت لها ذلك فقالت: لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها، فأعادت عليها الكرة وألحت، فصاحت ليلى أم عمرو بن كلثوم: واذلاه يا لتغلب.
فسمعها ابنها فاشتد به الغضب فرأى سيفاً للملك معلقاً بالرواق فتناوله وضرب به رأس عمرو بن هند، ونادى في بني تغلب وانتهبوا ما في الرواق، ونظم قصيدة يخاطب بها الملك قائلاً:
أَلاَ لاَ يَجْهَلَنَّ أَحَدٌ عَلَيْنَا .. فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِلِيْنَا
بِأَيِّ مَشِيْئَةٍ عَمْرُو بْنَ هِنْدٍ .. نَكُوْنُ لِقَيْلِكُمْ فِيْهَا قَطِيْنَا
بِأَيِّ مَشِيْئَةٍ عَمْرَو بْنَ هِنْدٍ .. تُطِيْعُ بِنَا الوُشَاةَ وَتَزْدَرِيْنَا
تَهَدَّدُنَا وَتُوْعِدُنَا رُوَيْداً .. مَتَى كُنَّا لأُمِّكَ مَقْتَوِيْنَا
فَإِنَّ قَنَاتَنَا يَا عَمْرُو أَعْيَتْ .. عَلى الأَعْدَاءِ قَبَلَكَ أَنْ تَلِيْنَا
[القيل هو الملك دون الملك الأعظم، والقطين هم الخدم، والقتو خدمة الملوك]
إلى أن يقول في آخر معلقته: ...
إذا ما المَلْك سام الناس خسفاً ... أبينا أن نقر الذل فينا
وعن خلق الصدق يروى العرب بيتا خالدا من الشعر والنحويون زادوه خلودا:
إذَا قَالَتْ حَذامِ فَصَدِّقُوهَا ... فَإنَّ القَوْلَ مَا قَالَتْ حذَامِ
وقصته أن (عاطس الحميري) سار إلى الريان في جموع من العرب -خثعم وجعفي وهمدان- فلقيهم الريان في عشرين حياً من أحياء -ربيعة ومضر- فاقتتلوا وصبروا لا يُوَلي أحد منهم دُبُرَه، وفي الليل رجع عاطس الحميري إلى معسكره وهرب الريان تحت ليلته فسار ليلته وفي الغد ونزل الليلة الثانية فلما أصبح عاطس الحميري ورأى خلاءَ معسكرهم أتبعهم جملةً من حماة رجاله وأهل الغناء منهم فجدُوا في إتباعهم فانتبه القطا في إسرائهم من وقع دوابهم فمرت على الريان وأصحابه عرفاً عرفاً فخرجت حذام بنت الريان إلى قومها فقالت :
أَلا يَا قَوْمَنَا ارْتَحِلُوا وَسِيرُوا ... فَلَوْ تُرِكَ القَطَا لَيْلاً لَنَاما
فقال ديسم بن ظالم الأعصري :
إذَا قَالَتْ حَذامِ فَصَدِّقُوهَا ... فَإنَّ القَوْلَ مَا قَالَتْ حذَامِ
فارتحلوا حتى اعتصموا بالجبل، ويئس منهم أصحاب عاطس فرجعوا عنهم
قال أبو تمام:
إذا جَارَيْتَ في خُلُقٍ دَنِيئاً .. فأنتَ ومنْ تجارِيه سواءُ
رأيتُ الحرَّ يجتنبُ المخازي .. ويَحْمِيهِ عنِ الغَدْرِ الوَفاءُ
وما مِنْ شِدَّة ٍ إلاَّ سَيأْتي .. لَها مِنْ بعدِ شِدَّتها رَخاءُ
لقد جَرَّبْتُ هذا الدَّهْرَ حتَّى .. أفَادَتْني التَّجَارِبُ والعَناءُ
إذا ما رأسُ أهلِ البيتِ ولى .. بَدا لهمُ مِنَ الناسِ الجَفاءُ
يَعِيش المَرْءُ ما استحيَى بِخَيرٍ .. ويبقى العودُ ما بقيَ اللحاءُ
فلا واللهِ ما في العيشِ خيرٌ .. ولا الدُّنيا إذا ذَهبَ الحَياءُ
إذا لم تخشَ عاقبة َ الليالي .. ولمْ تستَحْي فافعَلْ ما تَشاءُ