عالم الخيال
نعيش جميعًا في بحر الحياة، تتقاذفنا أمواجه، فتعلو بنا لعنان السماء، أو تقذف بنا في قيعان البحار والمحيطات، أو تتركنا ما بين هذا وذاك؛ فلا ندري في أي مكان ترسو بنا سفينةُ الحياة.
هناك من يسعد بوصوله إلى النجوم المتلألئة، ويبذل قصارى جهده؛ لئلا يقع ويهبط، وهناك من يستسلم لمطبَّات السحب وعواصف الرياح، وينحدر لقيعان الأرض، ويعيش في عالم منعزل عن واقعه؛ عالم يحلم فيه بتحقيق كل أهدافه وأمانيه، عالم مملوء بالأماني التي لن تتحقَّق إلا على أرض الواقع وبمزيد من الجهد.
طبيعي أن يكون لدى كل منَّا عالمه الخاص؛ عالم الخيال والأحلام، فهو عالم جميل لا أنكر ذلك، ولكن الانغماس فيه يُعَدُّ قنبلةً موقوتةً، تجعل صاحبه ينفصل عن واقعه انفصالًا تامًّا؛ بل تجعل منه إنسانًا مريضًا بالوحدة والانفصال، وتجعل منه إنسانًا يائسًا محبطًا.
قنبلة تجعله دائمًا لا يستشعر إلا الحزن والأسى، لا تجعله يرى جمال الحياة، ويستمتع بما خلقه الله له؛ كقول الشاعر إيليا أبو ماضي:
وترى الشوك في الورود وتعمى عالم الخيال
أن ترى فوقها الندى إكليلا عالم الخيال
والذي نفسه بغير جمال عالم الخيال
لا يرى في الوجود شيئًا جميلا عالم الخيال
ولكن قبل الغوص في عالم الخيال، علينا أن نعرف أن التغلغل به هو بمثابة هروب، نعم من أرض الواقع إلى عالم الخيال، من ساحة المواجهة إلى كهف الانسحاب.
ولهذا الهروب أسباب كثيرة منها، تلاشي المواجهات التي تُخرِج المرء من دائرة الراحة، أو الخوف من مواجهة المشاكل، أو الانسحاب نتيجة الفشل في موضوع ما، أو الإخفاقات المتتالية، أو الوقوع في ظلم شديد.
يدخل المرء هذا العالم بطرق شتى، تختلف من شخص إلى آخر حسب ظروفه؛ كالانعزال بغرفته لا يُخالط أحدًا، وكالانفراد بهاتفه الخلوي يتصفَّح مواقع تخرُّجه من واقعه، وما أدراك بكثرة هذه المواقع؟! وكذلك أيضًا يهرب بالنوم الطويل أو وصلة من الضحك الهيستيري.
يعيش الإنسان في عالمه الخيالي متناسيًا مشاكله، معتقدًا أن هذا هو الحل؛ ولكنه لا يدري أنه بذلك يزيدها تعقُّدًا عندما يسترجع وعيه، يدخله معتقدًا أن هذا هو سبيل الراحة والسعادة؛ لكنه لا يعلم أنها سعادة مؤقتة، سعادة مخدرة، لا يصاحبها إلا واقع أكثر ألَمًا ومرارة.
ولكنى أتساءل لِمَ الهروب؟! بل لمتى؟! ولماذا نسينا قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴾ [الطلاق: 3]؟! أشعر وكأن الهروب له علاقة بالفتور في عبادة المرء لربِّه، فهل الهروب بهذا الشكل مهما كان نوعه هو السبيل لحلِّ ما نحن فيه؟! أم أنه عجز وضعف واستسلام؟! أم أنه ضعف للعلاقة الربانية؟!
لِمَ لم نستعن بالله عز وجل على حل مشاكلنا كما قال رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام: ((إذا سألت، فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)).
علينا جميعًا أن نقتنع اقتناعًا تامًّا أن تلك الدنيا ليست فقط للخيال؛ لأن الخيال متعة عقلية مؤقتة إن زادت عن حدِّها انقلبت لضدِّها.
علينا أن نقتنع أننا خُلقنا للمشقَّة والتَّعَب، وهذه المشقَّة تختلف من إنسان لآخر، أنسينا قوله تعالى: ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ ﴾ [البلد: 4]؟!
عالم الخيال عالمٌ جميلٌ لا يشوبه شائبة لمن ربط بينه وبين واقعه، لمن يحلم ويتمنَّى، لمن يرسم ويُخطِّط، لمن يُفكِّر ثم ينفذ على أرض الواقع، لمن يوازن بين عالميه الواقع والخيال.
علينا جميعًا أن نُفكِّر بعقولنا التي وهبنا الله إيَّاها، ثم نتوكَّل على الله مُدبِّر الأمور، وأن نُقوِّي علاقتنا بالله عز وجل، فهو نعم المولى ونعم الوكيل.