قد يكون
الوعي Consciousness هو
اللغز الأكبر في الطبيعة،
فهو ما يجعلنا قادرين على إدراك ما حولنا، وكذلك ما يوجد داخلنا.
لكن تأمُّلنا للوعي يجعلنا ندور في حلقة مفرغة، فنحن جميعًا نعرف -حسيًّا-
ما هو الوعي، فهو ما نعرفه هنا والآن، لكن عندما نحاول أن نعبر بدقة
عما يكونه
الوعي بالتحديد، نفشل في ذلك، ولسنا نحن فقط،
فقد ناضل الفلاسفة والعلماء لتعريف الوعي، وتنافست المدارس الفكرية المختلفة،
لكن لم يتوصل أحد إليه. إنه لأمر مقلق أننا لا نفهم ما يجعلنا مدركين لأنفسنا
وللعالم حولنا.
في هذه المنطقة الغامضة -الدماغ-
الوعي والذكاء مرتبطان، ومع ذلك هما
ليسا الشيء نفسه.
ككثير من الأمور التي تميزنا بوصفنا بشرًا، ربما تطور وعينا من شيء أبسط عبر
الانتخاب الطبيعي، وربما نشأ عبر تتابع هائل على مدار ملايين الأعوام
من الخطوات الصغيرة غير المحدودة، التي شكلت معًا تنظيمًا لمنحني الوعي،
من اللاوعي إلى
الوعي الأساسي، إلى
الوعي المعقد الذي نتمتع به اليوم.
من المتفق عليه أن الحَجَر -مثلًا- غير واعٍ على أي حال، لكن لا يتفق الجميع على ذلك،
إذ يزعم معتنقو النظرية النفسية الشاملة panpsychist أن كتلة الحجر هذه قد تحتوي
حياةً باطنية، لكن ليس لهذه الفرضية أساس علمي، لأن الأحجار لا تُظهر أي سلوك،
ومن ثم فوجود حياة باطنية لها شيء لا يمكن إثباته أو نفيه.
نقطة البداية:
الأكثر شيوعًا للوعي في الكائنات الحية -أو الذات- هي جزء من الكون، ذلك الجزء
الذي يعزز نفسه ويكوّن المزيد من نوعه، وللقيام بذلك يحتاج الى طاقة،
وهنا يكون إدراكه للعالم مفيدًا.
الوظيفة الأساسية للوعي غالبًا هي توجيه الذوات المتحركة، التي تحتاج إلى
الطاقة نحو إمدادات جديدة من الغذاء.
في سلم الحياة الأصغر، أنت لست في حاجة إلى أن تكون مُدركًا لتجد الغذاء،
الترايكوبلاكس trichoplax adherent أحد أبسط الحيوانات يتحرك عشوائيًّا،
ويبطئ حركته في ظل وجود الغذاء، ويسرع حال غيابه، وهو أسلوب فعال للغاية
إذ يجعل الكائن الصغير يقضي حيث يوجد الغذاء وقتًا أطول مما يقضيه حيث
لا يوجد غذاء، لكنه لا يتحرك أبدًا في اتجاه محدد أو نحو هدف محدد،
لذا فهو لا يحتاج إلى أن يكون واعيًا.
أول مرحلة رئيسية نحو
الوعي كانت غالبًا حين بدأت الكائنات تحرك أنفسها تحركًا
مُوجَهًا، فأصبحت تتحرك نحو ما هو نافع لها كالغذاء، وتبتعد عما هو أقل نفعًا
أو غير نافع ككائن آخر قد يفترسها.
الدوجيسة Dugesia tigrina مثلًا، هي دودة صغيرة معروفة بوجهها المرح،
تكون أحيانًا جائعةً وأحيانًا أخرى لا، ما يعني أن حركتها ليست مجرد استجابةً تلقائيةً
لمحفز خارجي، بل استجابة لحالتها الفسيولوجية الداخلية، من الجوع أو الشبع.
بعد أن تأكل الدودة تصبح أقل حيويةً، لكن عندما تجوع فترةً من الوقت تتحرك
نحو الأشياء المفيدة لها، باستخدام مُستقبلات كيميائية موجودة على رأسها،
تستخدمها -فيما يشبه حاسة الشم- للتوجه نحو الطعام، وعندما تجد الوجبة
وتلتهمها، تعود إلى مخبأها المظلم الآمن لتهضم وجبتها بسلام،
إلى أن تجوع مرةً أخرى فتعيد الكرة.
لكن الحيوانات التي تعتمد على الشم اعتمادًا أعمى ليس لها هدف ملموس
في نظرها، أي أنها تفتقر إلى الإحساس بالمكان، لذا فإن الخطوة التالية
في سلم
الوعي هي إضافة بعض أدوات الإدراك الحسي من بعد، كالرؤية.
تضيف الرؤية العمق إلى عالمنا، فبها نتحسس المكان الذي نوجد فيه
ونستطيع العثور على الغذاء.
تضيف الرؤية بعدًا جديدًا للإدراك، وخطوةً عظيمةً نحو مكانة أكثر قربًا من الوعي
الكامل.
تسمح لنا أدوات الأبصار -الأعين- برؤية هدفنا وتحديده، لكن حتى في هذه المرحلة،
يستطيع الكائن الحي العثور على غذائه بقدر ما يرى لا أكثر.
إذن ما هو أصل الوعي ؟
بدأ
الوعي غالبًا في صورة حركة كائن جائع نحو مصدر غذائه، مستفيدًا من رغبته
في البقاء، ما أعطاه أفضليةً يمكنه من طريقها التغلب على منافسيه الذين
يتحركون عشوائيًّا، أو لا يتحركون بإرادتهم أصلًا، إذن ربما كانت الرغبة
في الغذاء هي أصل كل شيء.
حتى مع هذا
الوعي المتطور الذي يُمكِّننا من أن نحلم عن الفضاء، ونبني ناطحات
السحاب، ونفكر في الروايات، ليس مُفاجِئًا أننا لا نستطيع أن نتوقف عن التفكير
حول مصدر وجبتنا القادمة، ومن أين سنحصل عليها.
عمومًا فقد وضعنا الكثير من الأفكار والإبداع في طريقة تحصيل الغذاء،
فأصبحنا الآن نستطيع الحصول على طعامنا بالقليل فقط من الجهد الواعي .