أشواكٌ مدببة تخترقُ كلَّ يدٍ تمتد إليها، ليست هذه الأشواك تحمي زهرها، بل كانت تكبل جسدها، وتسجن روحَها، وتمنع الجميعَ من التمتعِ برائحتِها الذكية وطعمها اللذيذ، زرعت الأشواكَ شوكةً شوكةً؛ هذه شوكة تحميها، وهذه شوكة تغذيها، وهذه تعلمها أن الوردَ خُلق للمنظر، لا أن تجلسَ وتشم رائحتَها، ويقرر من ينظر إليها أن يقطفَها ويعيش بعبيرها، حقًّا كان لزامًا من شوكةٍ أخرى.
نظرت الوردة باكية فغيرها من الورودِ في كلِّ بلادِ العالم يزهرن؛ لأنَّ العاملين عليها يلقِّحونها أجملَ الحبوب، أمَّا هنا؛ فالعاملون عليها يسلبونها حقَّ الوجودِ؛ الوردةُ هنا سجينة، والعصافير الوحيدة القادرة على الاقترابِ منها، أمَّا السُّكان المجاورون لها فهم أكثر النَّاسِ بُعدًا عنها، وإن كانت تنفطر قلوبُهم وتمطر عيونُهم على بُعدهم منها؛ فهم يعشقونها عشقَ الهوى، ولكن العامل القائم على رعايتِها جار على كلِّ من يسكن بالبستان.
هبت رياحٌ شديدة عصفتْ بالغبارِ المتراكم على أغصانِ الوردة الجميلة، ولتبعد عنها الأشواك لتترنح الوردةُ يمينًا ويسارًا، منتعشة مستسلمة للرياحِ تعصفها كما تشاء، فهي تشتاقُ إليها من قديمِ الأزل، تناثرت الأشواكُ بعيدًا عن الوردةِ بفعل الرياح، وطُرِد العامل الظالم لأهلِه شرَّ طردة، وليقبل عليها أهلها لأولِ مرة في اشتياقٍ وحبٍّ وعناق بعد طولِ فراق، وليرسم كل طفلٍ بريشته حبها، وليكتب الأمي قصيدةَ حبٍّ يخطبُ ودَّها، وليبصر الأعمى على نورِ صنيعها.
الكلُّ أقبل متلهفًا للارتواء من رحيقِها؛ مشتقاء للهواءِ النقي بعد طولِ تنفسه من جوٍّ مليء بالسموم المباركية المنتنة، الكل أقبل غير مدركٍ أنَّ الوردةَ لها حقوقٌ كالتي له، الكل أقبل بعنفوانٍ يقبل ويشمُّ، ويحاول أن ينتزعَ الوردة له، وفي صفه اشتد الزحام عليها، كثر الكلام باسمها، الكلُّ يعزف لحنَها، الكل يتسلق فوقَ أغصانها، الكل يدعي حمايتَها من أعوانِ العامل الظَّالم الذي طردته ريحُ الطهر خارج البستان، بينما أعوانه ما زالوا ينعمون بالعيشِ داخل البستان.
اشتدَّ الحوار بين المتسلِّقين، الكل يتكلَّم باسمها، ويحاول انتزاعَها، وباقي أهلها لم يستطيعوا بعد رؤيتها ولا شم عطرها، الوردة تنظرُ بعينٍ باكية: هل كان العاملُ الظَّالم أحقَّ بشرفِها، أم أنَّ شتات القوم يحفظ شرفها ويصون كرامتها؟
اشتدَّ الحوار بين المتسلقين؛ هذا يريدها في الحقولِ بعيدة عن العامَّةِ حتى لا يغريهم بريقُها، وهذا يريدها في الميادينِ ليحتكمَ إليها المظلومون باسمها، وهذا يريدها ملفوفة بثيابٍ تحجب جمالَها، مدعيًا حفظَ شرفِها، وهذا يريدُ أن ينزعَ عنها روحَها وأوراقها لتظهرَ مفاتنها للجميع.
الكلُّ قرَّرَ دورها، ولكن لم يبدأ أحدُهم ويسألها عن رأيها، الكل عاملَها بأسلوبِ سؤال القاصر، وكأنها ليست بكفء للإدلاءِ برأيها.
اشتدَّ الجدالُ حولها، كثر المتسلقون على أغصانِها، لم تحتمل أغصانُها أن تحملَ على المتسلقين المتظاهرين بحبها، كُسِر غصنُ غذائها، ودمعت عليه عيونٌ، وذبلت فورًا أوراقُها، وسجن معها شعبُها، وظلَّ البكاءُ السمةَ الوحيدة لها