إن البشر الذين يُضرب بهم المَثل في حُسن الخلق، قد اشتَهر كلٌّ منهم في باب أو مَيدان واحد
من الميادين، فلا يكاد يُعرف عنهم غيره، أما
النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد جمَع الله
- تبارك وتعالى - فيه كمالَ الخُلق
وكمال الخِلال، ففي كل مجال وفي كل بابٍ ترى النبي
- صلى الله عليه وسلم - قد بلغ الغاية فيه.
عدم الضَّعف وجمْع المتقابلين:
كثير من البشر حين يُرزق خُلقًا قد يَطغى عليه في مواقفَ كثيرةٍ ويُخرجه عن الحق، فمَن رُزِق الرحمة
وصار صاحب قلبٍ رحيم يتحدَّث الناس عن رحمته، قد يأتي موطن يتطلَّب منه سوى ذلك
فتَغلبه الشَّفقة، وقُلْ مثل ذلك فيمَن رُزِق السَّخاء والجُود، فقد يتحوَّل ذلك إلى إسراف وتبديدٍ
للمال، والذي رُزِق الشجاعة قد تتحوَّل إلى بابٍ من أبواب التهور، أو قد تُخرجه عن الحق
في موقف من المواقف، وفي موطن من المواطن.
أما
النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي لا يردُّ سائلاً ولا شافعًا، بل يَقبل شفاعة الأَمَة والعبد
والكبير والصغير، فإنه لا يَقبل شفاعة في حدٍّ من حدود الله، فها هو في موقف يأتيه حبيبُه
وابن حبيبه أسامةُ بن زيد؛ ليَشفع في امرأة سرَقتْ؛ حتى لا تُعاقب، فيَغضب النبي
- صلى الله عليه وسلم - ويقول له: ((أتشفَع في حدٍّ من حدود الله؟!))، ثم قام فاختَطب، فقال:
((إنما أهلك الذين قبلكم، أنهم كانوا إذا سرَق فيهم الشريف، ترَكوه، وإذا سرق فيهم الضعيف
أقاموا عليه الحدَّ، وايْم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرَقت، لقطَعتُ يدها))[1].
وهذا الذي ذكرناه من حُسن خُلقه وعِشرته - صلى الله عليه وسلم - قليلٌ من كثير
وغَيض من فَيض، مما لا يمكن الإتيان على جميعه في مقالٍ أو كتاب، والله - عز وجل -
نسأل أن يَرزقنا حُسن
الخلق وحُسن الاتِّباع لرسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم.
سؤال يَطرح نفسه:
هل يُعقل أن تجتمع هذه الصفات وتلك الشمائل، وأن تَلتقي هذه السِّمات وتلك الفضائل في إنسان؟!
إن هذا لشيء عجيب، وإن العَجب ليَعظُم إذا علِمنا أنَّا لم نَذكر إلا القليل من محاسنه، واليسير
من فضائله، التي لا يُحصى لها عددٌ، ولم يُدرك لها أمَدٌ، بل لم تكتمل في أحد من العالمين إلا في النبي
محمد - صلى الله عليه وسلم - وهذا بشهادة أعدائه قبل أصحابه، وبشهادة مخالفيه، فضلاً عن مُتَّبعيه.
ولقد اجتهد أعداؤه في أن يَستدركوا عليه خطيئة أو زلَّة، أو أن يَظفروا منه بهَفوة
في جِدٍّ أو هَزْلٍ، فلم يجدوا إلى ذلك سبيلاً، والتاريخ خير شاهدٍ.
وكيف يتسنَّى لهم ذلك وقد سجَّل التاريخ ما تواتَر نقْله عنه - صلى الله عليه وسلم -
أنه كان عظيمًا فريدًا عبقريًّا في تربية أصحابه، ربَّاهم وأسَّسهم؛ ليقودوا العالم بعد ذلك؟!
كيف ربَّى أنموذجًا مثل مصعب بن عُمير؛ ليكون أوَّل سفير له - صلى الله عليه وسلم - أرسَله
إلى المدينة، فدعا أهلها، فهبُّوا سِراعًا؛ لأنه دعاهم بما ربَّاه عليه
النبي - صلى الله عليه
وسلم - على الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة.
وبالجملة، فآية أخلاقه - صلى الله عليه وسلم - آية كبرى، وعلامةٌ عظمى من علامات نبوَّته
ورسالته - صلى الله عليه وسلم - ففضائله وأخلاقه وشمائله، لم تَجتمع لبشرٍ قطُّ قبله، ولا تَجتمع
لبشرٍ بعده؛ وذلك أنه لم يُر ولم يُسمع لأحدٍ قطُّ كصبره، ولا كحِلمه، ولا كوفائه، ولا كزُهده
ولا كجُوده، ولا كصدق لَهجته، ولا كتواضُعه، ولا كصمْتِه، ولا كقوله أو فعْله، ولا كعَفوه
فضلاً عن أصيل حسَبه وكريم نسَبه - صلى الله عليه وسلم.
ولله دَرُّ خديجة - رضي الله عنها - حين وصفته ليلةَ بعثَتِه قائلة: "والله ما يُخزيك الله أبدًا؛ إنك
لتَصل الرَّحم، وتَحمل الكلَّ، وتَكسِب المعدوم، وتَقرِي الضَّيف، وتُعين على نوائب الحق"[2].
وقد توَّج الله - جل جلاله - هذا الاصطفاء بما ذكره في قرآنه الكريم، وهو المعجزة العظمى، والتي أيَّد
بها نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - حيث قال تعالى: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4] فخلقٌ عظيم
وقرآن عظيم، فهي نبوَّة خاتمة عظيمة، فصلَّى الله على مَن بعَثه بفضائل الأخلاق، ومُتمِّمًا لمكارمها.
[1] رواه البخاري 4375 ، ومسلم 1688، عن عائشة - رضي الله عنها.
[2] رواه البخاري 3، ومسلم 160، عن عائشة - رضي الله عنها.
د. محمد بن عبدالسلام