في ليلة ماطرة والجو مظلم، سمِع دقَّاتٍ خفيفةً على باب بيته، ذهب مُهَروِلًا ليفتحَ ويرى مَن بالباب، ففُوجئ برجلٍ مُسنٍّ مُنهار من التعب، ينتظر مَن يعينُه بلقمة ساخنة، ويروي جوفَه العطشان، كان في ثوبٍ رَثٍّ، أشعثَ الرأس، على سَحنتِه آثارُ النَّصَب، عيناه وكأنما تنبعث منهما نظرات الاستغاثة وطلبِ العون.
أدخلَه برفقٍ إلى ساحة بيته، ثم حاول الاستفسارَ عن حالته، وكم كان هولُ المفاجأة! كان من جيرانه القدماء في حيِّه السابق، بعد سنواتٍ طويلة من الفِراق تذكَّره وتذكر كيف كان يقتني له قِطعًا من الحلوى، هو وكثير من أطفالِ الحيِّ الصغار، الآن، هذا الرجلُ المسنُّ مطرودٌ وضائع وتائه، نعم، قصتُه تقصِم الظهر.
غادر هذا الرجل المسنُّ بيتَه ذاك إلى بيت جديد، اقتناه له أحدُ أبنائه، الذي يقطُن بالخارج، وفجأة ودون سابق إنذار، قرَّر هذا الابنُ بيعَ بيته ذاك؛ كي يقيمَ له مشروعًا في بلاد المهجر، فلم يرأفْ إطلاقًا بكرامة وضعف وقلَّة حيلةِ أبيه، أخرجه من البيت مكسورَ الظهر، عليهآثارُ الهوان، انتقل بعدها ليقضيَ ما بقي له من أيام لدى ابنته المتزوجة، ونظرًا لأن البيت بعمارة والغرفُ معدودة، ولها أبناء، وزوج غليظ الطباع؛ لم يجدْ هذا الأب المسكين من بُدٍّ إلا أن يغادرَه مُكرهًا، فإلى أين يذهب؟ أين المفر؟ أبناؤه الآخرون في مدن أخرى في بلده، وكلٌّ لاهٍ بشأنه؛ يكدَح ليكسِب رَغيفَ العيش، لهم أُسرٌ وأبناء، نسوا مَن ربَّاهم وعطف عليهم وحنَّ على براءتهم بعدما تُوفِّيَت أمُّهم، إنه نكرانُ الجميل بأتمِّ معنى الكلمة.
وهو يقص هذه الكلمات على الرجل الذي استقبله في ليلِه الكئيب، عيناه تذرفان الدموع كاللؤلؤ الذي يلمع،آهٍ! كم هي مأساته! تقطَّعَ وتمزق قلبُ الرجل وهو يسمع الحكاية، أسرع إلى زوجته كي تجتهدَ في تحضير الطعام، طلب أن تُفرِغَ له غرفةً بالمنزل، وأن يغتسلَ ويُعدِّل من هيئته، هذا الرجلُ الكريم شَهْمٌ بأتم معنى الكلمة، كيف لا، وهو إمام ودكتور وصاحب جمعية خيرية؟! عندما رأى هذا المشهد، عزم أن يقومَ بما أُوتيَ من قوة بتوعية الناس، والكتابة، ومباشرة مشاريعَ تفتح بابَ الأمل لهؤلاء المسنين، الذين خانتهم فِلْذَاتُ أكبادهم، ولم يرعَوا حقَّهم، ولفظوهم إلى الشارع بلا شفقة أو رحمة، عزم أن يوقظَ القلوبَ، ويحييَ الضمائر، ويُنوِّهَ بخطورة هذه الممارسة، إنه هدمٌ لأساس المجتمع، فردُّ الجميل والعرفان والعون، إن غاب كلُّ ذلك في إنسان، فعليه السلام، إنسانيتُه فقط عنوان، جسدٌ بلا روح، شخصية بلا أخلاق، صدر بلا ضمير، إنها مأساة ما بعدها مأساة إن حلَّت بإنسان.
بَدَأ من لحظته التفكيرَ في هذه الحال، وفعل ما بوسعه للتغيير، فعلى أفراد المجتمع أن يسعوا إلى إصلاح مثالبه، وهو بمكانته الأكثرُ تأهيلًا لها، ما سيقوم به ستكون له بركة عظيمة في حياته؛ لأنه سيكون منارةَ نورٍ، ومِنبر خير، وفتحة يأتي منها الضياء، سيقود الناس إلى البر والخير، ويكون خيرَ مُعين لهم في تحقيق ذلك، إنها أدوارٌ تُوكل إلى الناس، وكلٌّ في مَهمَّته الخاصة، وهو ذو حظ عظيم، سيُوعِّي الناسَ ويمارس دورًا في إحياء قيمة عظيمة جدًّا، أقلها أن يجبُرَ كسرَ هذا الأب المسكين، ويرسم البسمةَ على شفاه أمهات وآباء تنكَّر لهم أبناؤهم، فتاهوا وضاعوا، وتَيَهانُ الروح عن فلذة كبِدها أشدُّ ألمًا ووَخْزًا؛ لكنه قدرهم الذي يحيَونه، وستُسخر لهم الأسباب، وتعينهم على الصمود والثبات؛ رغم ضعفهم وتقدُّمِهم في السن، الذي هو من سُننِ الحياة، ولا مفرَّ منه بالنسبة لكل إنسان