لم أَرَ وجهَك بينهم، لكنني كنت على ثقة أنك لا بد أن تكونَ هنا، لساني المتثاقل مِن أثر البنج يلهَجُ بالحمد، وعيناي المواربتان بالكاد أفتحهما، ثم ما يلبث أن يعميَهما النورُ فأغمضهما من جديد، سحبت الممرضة سريري المتنقل إلى غرفتي، تلك الغرفة البسيطة المكوَّنة من ستة أسِرَّة بيضاء في ذلك المستشفى الحكومي الذي يحجُّ إليه المرضى من كل صوب وحدب في بحث عن معانقة الأمل.
كانت صورة "زهيرة" تلك المريضة الأربعينية المسجاة منذ سنوات على ذلك السرير القريب من معبر باب الغرفة، القادمة من أقصى شرق المغرب، أول ما التقطته عيناي، أومأت لي برأسها وبهمساتها تهنِّئني بالسلامة، فأجبتها بابتسامة، فكلتانا كانت خائرة القوى.
لم يَدُرْ بخلَدي للحظة أنَّ قصتينا تتشابهان إلى حد ما؛ فكلتانا شربتا من الخِذلان حتى الثمالة.
كل قصص الخذلان تتشابه.
كان سريري مقابلاً لها، وكانت عينانا تتقاطعان مرات كثيرة، وأنا أتابع في فضول وشفقة حركتَها البطيئة الخائرة وهي تحاول رفع كوب الماء لتروي ظمأها، أو تحاول رفع الغطاء عن كتفيها.
لم تكن تحدِّث أحدًا، ولم يكن يزورُها سوى أخيها الأكبر؛ والذي علمتُ من بعدُ أنه كان أستاذًا جامعيًّا يقطن بنفس المدينة، وأن زوجته تمتنع وتمنع أبناءها من زيارة عمتهم الوحيدة، فكان يزورها بين الفينة والأخرى حاملاً بعض الفاكهة التي ما تلبث أن توزِّعَها على المريضات حال انصرافه، علمت كذلك أنها كانت يتيمة الأبوين، وأن زوجها قد تخلّى عنها في أحلك المواقف، بل وزاد الطين بِلَّة حين خيَّرها - في زيارة لها - بين الطلاق وبين أن توقع السماح له بالزواج من أخرى، ففضَّلت الطلاق على أن تبقى رهينة عنده.
لم تَخِبْ فراستي؛ فوراء ذلك الجمال الشرقي الذابل، وتلك العينين الواسعتين العسليتين الغائرتين، وذلك الجسد المنهك المتهاوي، كانت فعلاً هناك قصة حروفها الخيبة.
كنت أعرض عليها قبل العملية خدمتها والسعي في حاجتها؛ لكنها كانت تصدُّني برِفْق؛ فقد باتت متعودة على خدمة نفسها بنفسها رغم ذلك الوهن الذي كان يكبِّلُ حركتها، وكم كنت يومًا سعيدة حينما اختارتني من دون باقي النزيلات لتهمس في أذني أنها تفتقد حجر التيمم الذي تعوَّدت أن تضعه تحت المخدَّة، فطفِقت أبحث لها عنه، وكم كانت فرحتي عارمة وهي تطلب مني أن أدنوَ منها أكثر لتشكرني ولتسألني في خوار عن اسمي، فيفترّ ثغرها عن ابتسامة بريئة وهي تهمس: "اسم جميل كصاحبتِه".
"زهيرة" وحده اسمُها - رغم كل تلك القسوة التي كانت ترزح تحت وطأتها، وذلك الجفاء الذي أبى ذووها إلا أن يُسقوها منه حتى الثمالة - يوحي بالأمل، ويرسم جنبات الرجاء، وينبئ بأن القادم سيكون أكثر ازدهارًا، كم كان يسعدني أن أراها حريصة على أوقات الصلاة، فما أن ينتهي الأذان حتى تجدها قد تيمّمت ودخلت في مناجاة ربٍّ لم ولن يتخلى عنها، وانفصلت روحُها عن هذا العالم المادي المتجبّر لتعانق الصفاء والنقاء، وتتجرد من أوحال المادة لتحاكي الملائكية والنور والطهر، سيكون حتمًا مزهرًا ما دامت واثقةً أنها لله ومع الله وبالله.
لم يَدُرْ بخَلَدي حينها أننا كنا نعيش نفس القصة بترتيبات وتفاصيل مختلفة، لكنها في البدء والنهاية تجسِّد أن الخِذْلان رجل ما نملك له شيئًا إن نزع الله من قلبه الرحمة