كانت الساعة الحادية عشرة صباحاً عندما خرجت من مكتب الحجوزات
وبيدي تذكرة السفر .. وأخيراً سأعود الى بلدتي !!
كم اشتقت لها ولشتائها المختلف ..
زخات المطر ، و ضبابها اللامع اجوائها البسيطه تلك كانت ولازالت تستهويني ..
وهـ أنا أخيراً أحمل تذكرةً للعودة .. بعد عنا غربه ومشقه عمل ..
يفصلني عن مسقط رأسي .. بضع ساعات !!
لم يعد لدي الكثير من الوقت ، لآبد ان أبدا فوراً في ترتيت حقائبي
ليس لدي الكثير من الحاجيات .. هي بعض الملابس والكثير من الورق !!
الشال الرمادي وساعتي المتوقفه ذات الاطراف الجلديه الباهته ..
مفتاح بيتنا القديم .. عمامتي وبعض الثياب الجاهزة ، والكثير من الروايات المليئه بالكذب !
معطف البرد الثقيل المليء بالفرو .. ليس سواهـ من يستطيع تدفئة جسمي النحيل البارد ..
فـ لم أعتد الدفء منذ القدم .. وفصولي الاربعه .. شتاء !!
هـ أنا أقف أمام شقتي كم ياترى من السنين قضيتها على هذه السلالم الطويله ؟
مابين طلوع ونزول .. كم كان يزعجني رداءة صنعها .. يبدو أني سأشتاق لها .. ربما !!
فصوته المزعج الفاضح لـ متسلقيه الى غرفهم المليئه بالاسرار والى شققهم كثيرة الغموض
يجعلني أتنبأ عن قصص وروايات تحدث حولي .. وعدداً كبيراَ من الأبطال !
ذات الأبطال الذين تسلقوا السلالم طلوعاً بـ كبرياء وشموخ ..
هم بعد لحظات يتهاون على ذات السلالم ولكن بـ انكسار الضعفاء !!
يالها من غرف ويالها من شقق .. أسراراً كثيرة تغض بها هذه البنايه الباليه !!
هـ هو باب مملكتي .. ملكها فقير لا فقير مال .. ولكن الحظ وحدة هو من افتقده !
كثيراً ما كنت أسمع عنه ، وأتمني رويته .. ولو كان رجلاً لـ حملة ذنبه في عنقي ..
مفتاح قديم .. كم كنت أنتظر أن يموت عمره بين عنق هذا الباب .. وكم كنت أذم
صاحب هذة البناية الجشع .. وها أنا اليوم أذكره بخير .. فقط تحملت شقته وجدرانها
رجلاً وحيداً .. وجماعةً من الهموم لا غرفاً تحويهم ولا أرض .. فقط أنا من حملها ..
حقاً فـ الله سبحانه يضع سره .. في أضعف خلقه !!
دقائق فقط وكل ما احتاجه أصبح في حقيبتي ..
والكثير من الوقت استغرقته في توديع أركان شقتي .. ألهذا الجنون كنت أحبها ؟!!
عجباً لم أذكرها بخير دوماً .. كم كنت أذمها هي وصاحبها الشجع ..
وداعاً لتلك الشرفه .. كم بحثت عن دفء الشمس التي تخترقها عند الشروق ..
وكم كنت أمتلاء برداً منها .. كم من الساعات قضيتها واقفاً ، ليس لروعة المنظر الطبيعي الخلاب
ولكن .. تلك المدرسه كانت تعج بـ أطفال اليوم .. بؤساء المستقبل !!
كم من الفتيان تسارعوا على دخولها .. أهم مهووسون بـ العلم حقاً ؟؟
أم هي تلك اللحظات التي يقضونها مع بعضهم بـ برائتهم الجميله .. وان كانت لحظات !!
ويشوبها سيلاً من العلم .. والمعلومات .. أرقاماً وحروفاً .. وعصا !!
كنت أتساءل كثيراً .. لمَ لا يُدرس الحظ .. لماذا يُعطى للبعض ؟ ويحرم منه آخرون ؟!
كيف وجده من وجده ؟ وكيف يجده من يبحث عنه ؟ الكثير من التساؤلات ..
كان الأحرى وضعها في كتاب .. يدعى ( لعنة الحظ ) مادة جديدة كفيله بـ فتح تخصص جامعي جديد
لـ ألاف الطلاب .. كفيله بـ اختصار سنوات عديده قد نفنى .. ولم نجده !!
الآن حانت لحظة الفراق .. هي بلا شك ليست لحظه ، ولكنها غصه و دمعه !
غصه هي دقائق الوداع .. لـ تُبقي في القلوب حُرقة .. تُضخ وتختلط مع الدماء
وتمر على أجزاء الجسد .. ممر الشرايين والاوردة .. لـ تُخلّف في أجسادنـا براكين نشطه
ثائرة .. تنتهي بـ دمعه مهما كان مقدار الدموع .. فـ اصدقها دمعة هي تلك التي تخرج أولاً
فـما يتليها من دموع ليس الا قطرات تبحث عن الخروج .. بعد أن فُتحت لها الأبواب
وعَبدت لها تلك الدمعة الأولى الطريق .. بصدق .. وشجاعة !!
.. هي تلك دورة حياة لحظات الوداع وربما كانت دورة حياة دمعة صادقة !!
هـ أنا بكل جفاء أضع شقتي الحبيبة ، والبناية الردية خلف ظهري !
هكذا نحن البشر .. نتنكر لـ ماضينا .. عندما نرى غداً أفضل !!
وهـ أنا أدير محرك سيارتي متوجها نحو المطار ..
سيارتي ؟!!
لابد أن أخلدك هنا بين شتات حروفي .. فكم تنقلت بفضلك يا عزيزة بين المستشفيات !!
كم كنتِ ستراً للكثير من الآهات ؟!
حقاً انتِ صامته لا تتكلمين .. تجيدين فن الاصغاء .. ولكن بـ وفاء عظيم !!
كم من البشر عظما في الاصغاء أمامي ..
وهم خلفي موجز لـ أخباري .. بالتفصيل !!
وكم كانت مقاعدك وفيه لـ روشتاتي الكثيرة المليئة بـ الأمراض التي استوطنت الجسد البارد !!
أتعلمين ؟
لن تجزيك الحروف .. ولكن أعدك بـ موقف محترم في مواقف المطار !!
صالة الانتظار .. أسوأ صالات المطار .. كيف لا وعنوانها الانتظار أهناك أبشع من هكذا كلمه ؟!
كيف توضع كلمه انتظار أمام المسافرين .. وهي كلمع شؤم واحباط ؟!
قضيت سنوات العمر في الانتظارات .. وهـ أنا اليوم أيضاً انتظر !!
الكثير من المغادرين .. لا ألومهم .. فـ مدينتي تستحق هذا الكم من المسافرين !
ألمح في الوجه عبارات و عبرات .. الكثير من عبارات الفرح و الحزن ..
عبارات الارتياح هنا و عبارات التعب والمشقه هنا وهنا وهنا وهناك ..
تباً هو ( الحظ ) أيضاً من يوزع العبارات .. من يقرأ عبارة وجهي الأن ؟!
عفواً لا عبارة على وجهي .. بل هي عَبرة !!
أين هو مقعدي ياترى ؟
كم أتمنى أن أحظ بمقعد جميل .. يكون جاره أجمل !!
لا أحب الحديث مع أحد .. فـ أنا على موعد مع بلدتي وأحتاج الى الكثير من الصمت
لـ أبحث فيه عن الكثير من عبارات الغزل والحب !!
أما بيتنا القديم ..
فيحتاج الي رواية لـ كاتب رومنسي مخضرم ، وشاعر من العصور الجاهليه
كي يتغزل فيه بـ عفويه وصدق .. فلا أؤمن بـ شعراء اليوم !!
هـ أنا بجانب الشرفه ..
كم نحن مرتفعون الآن عن سطح الأرض ؟
كيف هم الناس الان في بلدتي ؟ كيف هي الاجواء ؟
كيف هو بيتنا ؟ وكيف هي غرفتي ؟
كم من الرمال تكونت على باب بيتنا ؟ كم أحسدها وهي تشعر بـ أمان بيتنا !!
حديقتنا وأزهارها .. غرفة الجلوس وطاولة الطعام .. يالها من ذكريات
كيف سيكون استقبالها لي ؟ كيف سـ أتحمل شغف اللقاء بعد سنين البعد الطويله ..
نداء الوصول .. وخفقات القلب السريعه
حملت الحقائب والمعطف ذو الفضل الكبير على هذا الجسد النحيل ..
وبشوق كبير .. كل الشوق الذي يحمله هؤلاء القادمون معي الى بلدتي ..
حملته بصدري لوحدي !
يالها من عظمه .. يالها من شموخ .. أيعقل كل هذا الجفاء يا أنا ؟
أهكذا جمال .. يُجفى ؟؟ أهكذا نقاء .. يُفارق ؟؟
أول خطوة أخطوها على أرض بلدتي الشامخه ..
تحسرت فيها على عقوداً من العمر مضت هباءاً !
لم أجني من غربتي الا أدويتي .. وبخاخ الربو الوفي !
الذي يسعفني دائما كـ صديق صدوق لم تلده أمي ، يُنقذ صدر صديقه من الاختناق المرعب ..
كنت أختنق حتى وان كان صدري المتهالك بـ حال جيد !!
فـ الاختناق يشغل من ساعات يومي ثلثيها في أحسن الأحوال ..
ما كل هذا النقــاء ؟ ما كل هذه الطهارة يا بلدتي ؟
أحقاً حان موعد رمي بخاخ الربو في سلة مهملات مواقف المطار ؟
مالك يا بلدتي تجعلين مني خائن أمام أصدقاء غربيتي ؟
أأنتي ذاك الجمال الذي يغير مابداخل نفسي ؟
هل سأتحمل دقائق انتظاري لـ سائق آجرة ؟ أم جنون الوطن سيجعلني مجنوناً
يركض بلا شعور ؟ آين هم السائقين الى الوطن ؟ مالي لا آرهم ؟
أخيراً هاهو آحدهم يقبل .. يحمل الامتعه ويقودني لـ مركبته الصغيرة والتي لا آعلم هل ستحمل
رجلاَ نحيل الجسد ضخم الاشتياق ؟
يالها من شوارع ؟ شعور الأمان يجعلها مختلفه عن أجمل شوارع عواصم العالم ..
يالها من آرصفه .. كم يمشي عليها من بسطاء ؟ بؤساء ؟ مجرمون أعتياء ؟
حتى أسواق بلدتي مختلفه .. للتسوق فيها طعم آخر .. وأن كان الغلاء يخنقها ..
تبقى سيئه الوطن جميله !
أهذا حيّنا الفقير .. ياله من حيّ !
كم تجولت في أحياء الغربه ؟ وكم مشيت بجانب منازلهم الكبيرة ..
كم كنت أحلم بـ العودة !! وهـ أنا ذا أنظر حقيقةً لـ منازل حيّنا ( الحيّ ) !!
مسجد الحيّ كم للصلاة فيك شوق عظيم !
وكم للتكبير والركوع والسجود .. و حتى السلام !!
من هنا يا صديقي السائق .. وعلى عجل أرجوك !
نعم .. نعم من هنا يميناً أنعطف .. قد لا استطيع الحديث أكثر من ذالك ..
أتبع ناظريّ .. أتبع عينيّ حتى تصل الى بيتنـا .. لا كلام في أرجاء حيّنا !!
الكلام هنا ينتهي .. الحروف تحترق .. اللغه هنا يا صديقي السائق فقط للعيون !!
لمعه الأعين .. هي لغتنا الأم !!
هذا هو !! هنــا توقف ..
خذ ما تريد من المال .. أنت فعلت ما كنت أظنه يوماً حلماً ولن يتحقق !!
خذ المال .. الذي جمعته عقداً من الزمان .. خذه فلم يعد هناك من بحاجته ..
خذ يا صديقي .. ويا سيدي أن شئت !!
أحقيقةً ما أنا فيه الأن .. أأنا أقف أمام بيتنا القديم أخيراً ؟!
أهذه التي أرها الأن هي شرفة غرفتي ؟ أهذا هو سور بيتنا ؟
هذه التي تتمايل من أطرافة .. هي أشجار الحديقة ؟
كيف كانت تُسقى ؟ أمن ذكريانتا سرقتي الماء أيتها الاشجار ؟
سأبقى هنا يوماً ، اريد النظر في بيتنا يوماً !!
لن أدخله الآن .. سأمعن النظر أكثر وأكثر ..
حقيبتي ؟ أين انتي يا صديقتي ..
أعذريني سـ امزقك الأن ..
فـ انا أقف حالياً أمام شموخ بيتنا القديم !!
سـ أمزقك آنت وما فيك من ذكريات الغربه ..
لا أريدك أيها المعطف الان .. ولست بحاجه لـ فروك الدافئ ..
شالي الرمادي العزيز لست بحاجتك الأن ، وعنقي أيضاً لن يختبأ فيك بعد اليوم ..
ملابسي .. يامن كنتي لي عوناً في الغربه .. أعذريني فـ شارع الحي سيكون منزلك اليوم ..
روايات الكذب ؟ أمازلتي هنا يا حبيبه .. هيا لا مجال لمزيداً من الكذب .. أنا أمام حقيقة !!
حقيقة بيتنا القديم !!
ساعتي ذات اللون الباهت .. كم كنت أعدّ ثوانيك البطيئه ودقائقك المميته ؟
أوراقي .. يالك من وفيه .. لكن حان وقت رميك عالياً ليكتمل المشهد جمالاً ..
ها أنا أجلس أما باب بيتنا الكبير .. أمزق حقيبة الغربة وأنثر مافيها من أشلائي ..
أبحث فقط عن المفتاح .. مفتاح بيتنا القديم !!
رميتُ معطفي ، و رواياتي أصبح كذبها عارياً على قارعة الطريق !!
وساعتي واقفه وثوانيها عالقه على طرف الشارع ..
أوراقي تناثرت هنا وهناك والبعض لازال عالقاً في صراع مع الهواء النقي ..
ملابسي .. أشلائي كلها ظهرت .. الا ذاك المفتاح العين !!
هنا وهناك .. خلت الحقيبة من محتواها .. ولا أثر لـ ذلك المفتاح !!
لعنةً عليك أيها الحظ فـ مفتاح بيتنا القديم ، لازال هناك في شقة الغربه .. صامتاً !!
على طاولة شقتي ، شقتي ذات السلالم المزعجه ، سلالم البنايه الباليه
وصاحبها الجشع .. وأنا هنا أقف محترقاً أمام حلم .. بيتنا القديم !!
عفواً أمام ( أسوار بيتنا القديم ) !!
هل ما زال بخاخ الربو في جيب معطفي ؟ .. فـ الاختناق قاتل في بلدتي !
أم أن الحظ أيضاً أودعه في سلة مهملات مواقف المطار ؟ فـ صدري بحاجته الأن كثيراً ..
فـ لم يعد في بلدتي هواء ولا نقاء .. ولا حظ