تفسير قوله تعالى:
﴿ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ﴾
قال تعالى: ﴿ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ﴾ [المؤمنون: 103].
قال سَماحة العلَّامةِ الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -:
وقوله سبحانه وتعالى: ﴿ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ﴾ [المؤمنون: 103]، إنما قال:
خسروا أنفسهم؛ لأنهم أُخرِجوا إلى الدنيا، وجاءتهم الرسل وبيَّنتْ لهم الحق، ولكنهم والعياذ بالله
عانَدوا واستكبروا، فخسروا أنفسهم، ولم يستفيدوا من وجودهم في الدنيا شيئًا، قال الله تعالى:
﴿ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾ [الزمر: 15].
ثم قال تعالى مبيِّنًا أنهم كما يعذَّبون بدنيًّا، فإنهم يعذَّبون قلبيًّا، فيقرعون ويوبَّخون، فيقال لهم:
﴿ أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ﴾ [المؤمنون: 105]، فقد تُلِيَتْ عليهم آياتُ الله
وبُيِّنت لهم، وجاءتهم الرسل بالحق، ولكنهم كفروا والعياذ بالله، وكذَّبوا بهذه الآيات.
قالوا في الجواب: ﴿ قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا ﴾
يعني: إن عدنا إلى التكذيب ﴿ فَإِنَّا ظَالِمُونَ ﴾ [المؤمنون: 106، 107]، فيُقِرُّونَ والعياذ بالله بأن الشقاوة
غلَبتْ عليهم، وأنهم ضلُّوا الضلال المبين الذي أوصلهم إلى هذه النار، نسأل الله أن يعيذنا وإياكم منها.
قال الله تعالى: ﴿ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ ﴾ [المؤمنون: 108]؛ أي: ابقوا فيها أذلاء صاغرين
﴿ وَلَا تُكَلِّمُونِ ﴾ وهذا أشد ما يكون عليهم والعياذ بالله؛ أن يوبِّخهم الله هذا التوبيخ فيقول:
﴿ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ ﴾؛ فإنهم لو كلَّموا الله لن يستجيب لهم؛ لأنه قضى عليهم بالخلود في النار.
ثم قال تعالى مبينًا حالهم مع أوليائه:
﴿ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [المؤمنون: 109]
وهؤلاء المؤمنون بالله ورسله يقولون: ﴿ رَبَّنَا آمَنَّا ﴾؛ أي: آمَنَّا بك وبرسلك وبما جاؤوا به من الحق
﴿ فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ﴾ اغفر لنا ذنوبنا حتى لا ندخل النار، وارحمنا بالقبول حتى ندخل الجنة.
﴿ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ﴾ فلا أحد أرحم بعباد الله من ربِّهم عز وجل؛ قال النبي
عليه الصلاة والسلام: ((الله بعبادة أرحم من الوالدة بولدها)).
﴿ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ ﴾ [المؤمنون: 110]؛ يعني: أنكم تَسْخرون
بهؤلاء المؤمنين الذين يؤمنون بالله ويسألونه المغفرة والرحمة، فكنتم تَسخرون منهم وتَستهزئون بهم
﴿ حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي ﴾؛ أي: حتى كانت سخريتكم بهم واستهزاؤكم بهم مُنسِيةً لكم ذِكري.
﴿ وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ ﴾ يعني: في الدنيا كانوا يضحكون بالمؤمنين ويستهزئون بهم
ولكن الله قال في سورة المطففين: ﴿ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ﴾ [المطففين: 34]
وهذا الضحك الذي لا بكاء بعده، أما ضحك الكفار من المسلمين في الدنيا، فإنه سيعقبه البكاءُ الدائم والعياذ بالله.
﴿ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾ [المؤمنون: 111]؛ يعني: جزى الله تعالى
المؤمنين بما صبروا على طاعة الله، وصبروا عن معصيته، وصبروا على أقداره ﴿ أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾
الذين فازوا بهذا اليوم، فأدرَكوا المطلوب، ونَجَوْا من المرهوب، وإنما ذكر الله هذا لهؤلاء المكذِّبين
زيادةً في حسرتهم وندامتهم، كأنه يقول عزَّ وجلَّ: لو كنتم مِثلَهم لَنِلتُم هذا الثواب
فيزدادون بذلك حسرة إلى حسرتهم والعياذ بالله.
كيف كان حال هؤلاء الذين كانوا يَسْخرون بهم في الدنيا ويضحكون منهم؟
وكيف كان حالهم وهم في نار جهنم؟
﴿ قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ ﴾ [المؤمنون: 112، 113]
انظر: جاءتهم الرسل وعمِّروا عمرًا يتذكر فيه من تذكَّر، ولكنهم والعياذ بالله لم ينتفعوا بهذا
ورأوا أنهم كأنما لبثوا ساعة أو بعض ساعة ﴿ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ ﴾
اسأل العادين منا؛ فإننا لا نرى أننا لبثنا إلا يومًا أو بعض يوم.
قال الله تعالى: ﴿ قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [المؤمنون: 114] يعني: ما لبثتم إلا قليلًا في الدنيا
وآل بكم الأمر إلى الآخرة التي تَبقَوْنَ فيها أبد الآبدين معذَّبين.
﴿ قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [المؤمنون: 114]؛ يعني: لو أنكم كنتم
من ذوي العلم، لعلمتم مقدار تكذيبكم للرسل، ومقدار أعمالكم التي خسرتموها.
﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا ﴾؛ يعني: أتظنون أننا ﴿ خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ﴾ [المؤمنون: 115]
هم ظنوا كذلك، ظنوا هذا الظنَّ، ولكن الله وبَّخهم على هذا الظن، هل من حكمة الله أن ينشئ
هذه الخليقة، ويرسل إليها الرسل، وينزل عليها الكتب، ثم تكون النهاية الموت والفناء بدون بعث، بدون رجوع؟
هذا لا يمكن، لكن هذا ظنُّ الذين كفروا ﴿ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ﴾ [ص: 27].
ثم قال تعالى: ﴿ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ﴾ [المؤمنون: 116]
"تعالى" يعني ترفَّع عزَّ وجلَّ عن كل نقص وعن كل سوء، وعلا بذاته فوق عرشه سبحانه وتعالى
﴿ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ﴾ المَلِكُ يعني ذو المُلك والسلطان والعظمة، الحق:
الذي كان ملكه وملكوته حقًّا وليس بباطل.
﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾؛ أي لا معبود حقٌّ إلا الله عزَّ وجلَّ ﴿ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ﴾
﴿ وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ ﴾ [المؤمنون: 117] إلى آخر السورة.
فهذه الآيات تبيِّن أن الإنسان ينبغي له أن ينتهز فرصة العمر، وألا يخسر عمره كما خَسِرَهُ هؤلاء
وأنه سوف يُبعث ويُجازى ويحاسَب على عمله، فنسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم ممن حسابه يسير
ومآله إلى دار القرار في جنات النعيم.
المصدر: «شرح رياض الصالحين» (3/ 450- 454).
سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين.