الاسترخاء كثيرٌ نفعه لمن أنهكت روحَه وجسده المشاغلُ والأكدار، ولكنْ قليل مَن يأخذ نصيبه منه، ويبدو أن هذا بسبب من غياب ثقافته عن كثير من الناس، خاصة من قبل النخب المثقفة؛ ربما لأنها تعودت على الكدح والجدّ، وترى في الاسترخاء نوعاً من البطالة، وهذا لا يتوافق مع ما أخذوا به أنفسهم من الجد والاجتهاد، ولو تفكروا لعلموا خطأ ذلك التصوّر، وذلك الجنوح عن الاسترخاء، واطّراحه من أبجدياتهم.
لو نظرنا فيمن حولنا ومن كانوا ذوي سبق في مجال الإبداع؛ لوجدنا أن الاسترخاء وسيلةٌ من وسائل خلق الإبداع لديهم؛ لأنه يكون وسيلة للمراجعة وتبديل القناعات أو توجيهها توجيهاً يخدم الفكرة التي يدعون لها ويسعون لتكريسها، بل إنه يكون محطة للتغير في أوضاع المجتمعات، بل إن التبدّلات الكبرى في المجتمعات البشرية سُبقت باسترخاء من منظري تلك التوجهات العظمى.
فموسى -عليه السلام- غاب أربعين ليلة، ومحمد -صلى الله عليه وسلم- كان يتحنث الليالي ذات العدد كل فترة، وكل تلك الفترات للنظر في أحوال البشر وما هم عليه من هدي إن رشيداً أو مائلاً مقيتاً، وخلال ذلك يفكرون ويقدرون؛ لذا كان هديهم قويماً وعلاج ما قد يعن لهم من معضلات سائغاً مهدياً، كما أن في الاسترخاء زاداً للروح يمكّنها من حوزة الإيمان تفكّراً وتأمّلاً..
و على الرغم من كثافة المشغلات وإحاطتها بالعظماء، إلاّ أن الاسترخاء لهم زاد يعتادونه بين الفينة والأخرى، فهذا محمد -صلى الله عليه وسلم- يتعاهد نفسه بعشرة أيام في كل عام من شهر رمضان يخلو فيها بمن يحب يلتمس هديه، ويسأله عونه وتسديده، ويبتعد فيها جهده عن مكدّرات الدنيا ولواعجها، ويحرص كل الحرص على النأي عن خطل البشر، بل كلما تقدَّم الإنسان في العمر كانت حاجته إلى الاسترخاء مضاعفه وماسّة، فهذا نبي الله -صلى الله عليه وسلم- يضاعف أيام اعتكافه في آخر سنيه، فكأنه يقول: إن حاجة المرحلة القادمة تربو على ما تقدم؛ فليس آخر العمر بأقل حاجة للاسترخاء من أوله.
وقد عرّجت في الأيام الماضيات المباركات على من لازموا الاعتكاف، وجعلوا منه عادة لهم؛ اتباعاً لهدي النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأطرح عليهم سؤالاً حول جدوى الاعتكاف ومدى إفادة الإنسان منه؛ فرأيت منهم إجماعاً على عظيم أثره على المعتكف في دينه ودنياه، فهو وسيلة لتقوية الإيمان وتحصيل التقوى، وبناء الشخصية الراغبة في الكمال، والترقي منازل العبودية، كما أنه فرصة للمراجعة لسجل الإنسان في هذه الحياة تعزيزاً لجوانب النجاح، ووَدْعاً لجوانب الفشل، كما أن الاعتكاف فرصة لبناء خيارات أخرى تكسب الإنسان خيراً وفلاحاً ونجاحاً في الدنيا والآخرة، ويعزز تلك الخيارات ويمكِّن لها من خلال سؤال الله ودعائه بأن يرزقه التوفيق في تحقيقها، فهو يجمع بين السبب الشرعي والسبب المادي، ولن يندم من وضع حاجاته بين يدي خالقه سبحانه.
فالاعتكاف يبدو لي أنه يؤسس لثقافة الاسترخاء بمعناها الشامل؛ ليوقف الناس على أهمية بناء الشخصية من خلال وقفات معها بين الفينة والأخرى؛ لذا فالكثير ممن فهم مغزى الاعتكاف، جعلوا من الاسترخاء زاداً ومحطة يتزوّدون منها كلما كلَّت منهم الأجساد، وضعفت العقول عن التفكير؛ لذا قال لي بعض ممن نجحوا في حياتهم: إن له خلوة شهرية يومين أو ثلاثة، أعتزل فيها العالم عزلة تامة، أبدِّل فيها وأغيِّر، وأرسم منهاجاً مؤقتاً وآخر دائماً لمسار حياتي، وعندما تكون الحاجة ملحة لاتخاذ قرار ما أقدّم استرخاء بين يديه أفكر من خلاله وأقدر، لذا أرى جوانب النجاح في حياتي متواترة، وإن كان لا بد من أخطاء وهذه طبيعة البشر، ونعم ما قال...
وعندما ننعم النظر في حراكنا، نلحظ أن إجازاتنا التي يفترض أنها تقدم للإنسان، نقلة للروح والجسد، لا تبني نمطاً مغايراً لما اعتادت عليه، فهي لا تخلو أن تكون وسيلة لتنفيس ما تراكم من شواغل فربما خرج منها مكدوداً أضعاف ما كان عليه في أيامه الروتينية، وهذا لا يمكنه من إعطاء الجانب الفكري حقه، لذا يخرج من إجازته كما دخل لا جديد في حياته، هذا إن كان قد قضَّى تلك الإجازة بين أهله، أما إن كان الخيار الآخر، وهو خيار السفر خارجياً، فربما كانت نزهةً للبصر منه دون العقل والفكر، فأوقاته تهدر في التنقلات والتنزّه، ولا نصيب للفكرة فيها، ولو عقد توازناً بينهما - وهذا ما نفتقده في حياتنا - لكان خيراً وأشد توفيقاً، حيث متَّع بصره وأعمل فكره، وهذا المنهاج هو ما تواصى به الحكماء، ونلحظ أن من سبقونا لثقافة السياحة من الأمم الأخرى يمشون على نسقه، فالغربي في سياحته يعمل البصر فيمن حوله، ويتأمّل، ويسترخي، وللقراءة نصيبها عنده، وكلها تتآزر في بناء الشخصية.