فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا
حرص الإسلام كل الحرص على بقاء رابطة الحياة الزوجية ما دامت حياة الزوجين باقية، وشرع للحفاظ على تلك الرابطة وبقائها ودوامها العديد من الأحكام، ومن تلك الأحكام ما شرعه سبحانه للمرأة من حكم في حال علمها أن زوجها قد أصبح كارهاً، وراغباً في طلاقها، فقال سبحانه: {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير وأحضرت الأنفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا} (النساء:128) نقف في السطور التالية مع سبب نزول هذه الآية الكريمة.
ذكر المفسرون عدداً من الروايات في سبب نزول هذه الآية، وهي كالتالي:
الرواية الأولى: روىيمنعالبخارييمنعومسلميمنععنيمنععائشةيمنعرضي الله عنها، قالت: (الرجل تكون عنده المرأة، ليس بمستكثر منها، يريد أن يفارقها، فتقول: أجعلك من شأني في حلٍّ، فنزلت هذه الآية في ذلك). وفي رواية في "سنن ابن ماجه" أنها قالت: (نزلت هذه الآية: {والصلح خير} في رجل كانت تحته امرأة، قد طالت صحبتها، وولدت منه أولاداً، فأراد أن يستبدل بها، فراضته على أن تقيم عنده، ولا يَقْسم لها) أي: لا يقسم لها في المبيت عندها. وحديثيمنعابن ماجهيمنعقال عنه الشيخيمنعالألباني: حسن. ولا تنافي بين حديثعائشةيمنعالأول وحديثها الثاني؛ إذ إن الأول مبهم، والثاني مفسر للإبهام.
الرواية الثانية: روىيمنعأبو داوديمنععنيمنععائشةيمنعرضي الله عنها، قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفضل بعضنا على بعض في القَسَم من مكثه عندنا، وكان قلَّ يوم إلا وهو يطوف علينا جميعاً، فيدنو من كل امرأة من غير مسيس، حتى يبلغ التي هو يومها، فيبيت عندها، ولقد قالتيمنعسودة بنت زمعةيمنعحين أسنت، وفَرِقَت أن يفارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! يومي لعائشة، فقَبِل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم منها. قالت: نقول في ذلك أنزل الله تعالى وفي أشباهها: {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا}) قوله: وفَرِقَت: أي: خافت. الحديث قال عنه الشيخيمنعالألباني: حسن صحيح.
الرواية الثالثة: روىيمنعالترمذييمنععنيمنعابن عباسيمنعرضي الله عنهما، قال: (خشيتيمنعسودةيمنعأن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: لا تطلقني، وأمسكني، واجعل يومي لعائشة، ففعل فنزلت: {فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير} فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز). قال الشيخيمنعالألباني: هذا حديث حسن صحيح غريب.
الرواية الرابعة: روىيمنععبد الرزاقيمنعفي "تفسيره"، والحاكميمنعفي "المستدرك" عنيمنعرافع بن خديجيمنعرضي الله عنه، قال: في قوله تعالى: {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا}؛ قال: كانت تحته امرأة قد خلا من سنها، فتزوج عليها شابة، فآثر الشابة عليها، فأبت امرأته الأولى أن تقر على ذلك؛ فطلقها تطليقة، حتى إذا بقي من أجلها يسير؛ قال: إن شئت راجعتك، وصبرت على الأثرة، وإن شئت تركتك حتى يخلو أجلك، قالت: بل راجعني، وأصبر على الأثرة، فراجعها وآثر عليها الشابة، فلم تصبر على الأثرة؛ فطلقها، وآثر عليها الشابة، حتى إذا بقي من أجلها يسير؛ قال لها مثل قوله الأول. فقالت: راجعني، وأصبر، قال: فذلك (الصلح) الذي بلغنا أن الله تعالى أنزل فيه: {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا}. قاليمنعالحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه". ووافقهيمنعالذهبي.
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة. وقد أورد جمهور المفسرين الأحاديث المتقدمة جميعاً، أو بعضها على اختلاف بينهم؛ قاليمنعالطبري: "إذا علمت المرأة من زوجها استعلاء بنفسه عنها إلى غيرها أَثَرة عليها، وارتفاعاً بها عنها، إما لبغضة، وإما لكراهة منه بعض أشياء بها، إما دمامتها، وإما سنها وكبرها، أو غير ذلك من أمورها، فلا جناح على المرأة الخائفة نشوز بعلها، أو إعراضه عنها، أن يصلحا بينهما صلحاً، وهو أن تترك له يومها، أو تضع عنه بعض الواجب لها من حق عليه، تستعطفه بذلك، وتستديم المقام في حباله، والتمسك بالعقد الذي بينها وبينه من النكاح، والصلح بترك بعض الحق؛ استدامة للحرمة، وتماسكاً بعقد النكاح خير من طلب الفرقة والطلاق".
وقاليمنعابن كثيريمنعنحواً من قوليمنعالطبري، وزاد: "كذا فسرهايمنعابن عباس...وغير واحد من السلف والأئمة، ولا أعلم في ذلك خلافاً، أن المراد بهذه الآية هذا".
وكلاميمنعالطبرييمنعوابن كثيريمنعوغيرهما يتفق مع ما رواه الشيخان عنيمنععائشةيمنعرضي الله عنها في الحديث الأول، وإذا اجتمع في سبب النزول صحة سنده، وموافقته لسياق الآيات، فلا عدول عن ذلك.
ثم قال أهل العلم بالحديث: "ما رواهيمنعأبو داوديمنععنعائشةيمنعرضي الله عنها، وأن الآية نزلت فييمنعسودةحين أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم فراقها، إن سنده غير محفوظ. وما رواهيمنعالترمذييمنععنيمنعابن عباسرضي الله عنهما في شأنيمنعسودةيمنعأيضاً فهو حديث ضعيف، لا تقوم به حجة".
والمتحصل: أن العمدة في سبب نزول هذه الآية الكريمة حديثيمنععائشةيمنعرضي الله عنها من قولها: (الرجل تكون عنده المرأة ليس بمستكثر منها ويريد أن يفارقها فتقول: أجعلك من شأني في حلٍّ. فنزلت الآية) وذلك لصحة سنده، وموافقته للفظ الآية، وتصريحه بالنزول. والأحاديث الأخرى لا ترقى من حيث صحة السند إلى حديث عائشة، ومع ذلك فهي غير منافية لما جاء في حديثيمنععائشة، بل هي إما مؤكدة له، أو مفصِّلة.