تأملات تربوية في سورة العصر
﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ [العصر: 1 - 3].
سورة العصر مكية، وقد جاءت في غاية الإيجاز والبيان، وفي نفس الوقت غاية الشمول والتكامليمنع
والترابط، لتوضيح سبب سعادة الإنسان أو شقائه، ونجاحه في هذه الحياة أو خسرانه ودماره.
في هذه السورة الصغيرة ذات الآيات الثلاث، يتضح منهج الله الذي وضعه للحياة البشرية
إنها تضع الدستور الإسلامي كله في كلمات قصار، وتصف الأمة المسلمة: حقيقتها ووظيفتها.يمنع
لذلك قال الإمام الشافعي رحمه الله: لو لم ينزل الله سوى هذه السورة لكفَّت الناس.
فقد بدأت السورة بقسم الله بالعصر لأهمية ما في هذه السورة، الله بجلاله يقسم
لنا، هل نقدر ذلك، وندرك خطورة موضوع السورة؟!يمنع
وجاءت الآية الثانية بالصفة السلبية ﴿ لَفِي خُسْرٍ ﴾، ولم تأت بالصفة الإيجابية؛ كالقول:يمنع
(إن الإنسان في فلاح إذا فعل كذا وكذا)، لتوحي بواقع الإنسان على مرِّ العصور
هذا الواقع هو كثرة الخاسرين من الناس وخروجهم عن منهج الله، وعن دعوة الرسل
وهذا ما تؤكده الآيات: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْيمنع
مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَيمنع
وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ
اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [الحديد: 26، 27].
كما يدل على ذلك أيضًا ما جاء في الحديث: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:يمنع
(أَوَّلُ مَنْ يُدْعَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ آدَمُ، فَتَرَاءَى ذُرِّيَّتُهُ، فَيُقَالُ: هَذَا أَبُوكُمْ آدَمُ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ
وَسَعْدَيْكَ، فَيَقُولُ: أَخْرِجْ بَعْثَ جَهَنَّمَ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، كَمْ أُخْرِجُ ؟ فَيَقُولُ: أَخْرِجْيمنع
مِنْ كُلِّ مِائَةٍ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِذَا أُخِذَ مِنَّا مِنْ كُلِّ مِائَةٍ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَيمنع
فَمَاذَا يَبْقَى مِنَّا؟ قَالَ: إِنَّ أُمَّتِي فِي الأُمَمِ كَالشَّعَرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي الثَّوْرِ الأَسْوَدِ)؛ (البخاري).
كما أنها جاءت هذه الصورة السلبية؛ لتكون أكثر تأثيرًا في النفس
وإيقاظًا للمشاعر، وتحذيرًا من الوقوع في هذا الخسران.
وجاءت الآية الثالثة في صورة أفعال أربعة تمثل الشروط الضرورية لعدم خسران الإنسان:
﴿ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ لتأكيد أن حساب
الله للإنسان سيكون على أعماله، كما هو واضح في قول الله عز وجل:يمنع﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُيمنع
أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 6 - 8].
كما جاءت هذه الأفعال في صورة الماضي لتأكيد أن خاتمة حياة غير الخاسرين شاملة لهذهيمنع
الأفعال جميعها، غير منقوصة بأيٍّ منها، والعبرة بالخواتيم، ففي صحيح البخاري من حديث سهليمنع
بن سعد رضِي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد ليعمَل عمل أهل النار وإنهيمنع
من أهل الجنة، ويعمل عمل أهل الجنة وإنه من أهل النار، وإنما الأعمال بالخواتيم).
إن الآية الثالثة التي تمثِّل الشروط الأربعة التي تجعل الإنسان من غير الخاسرين، هي:
1- آمنوا.
2- عملوا الصالحات.
3- تواصوا بالحق.
4- تواصوا بالصبر.
وكل شرط مِن هذه الشروط ضروري في ذاته مع باقي الشروط؛ حتى يكون الإنسانيمنع
من غير الخاسرين، وعدم توفُّر أيٍّ منها يعني أن الإنسان من الخاسرين؛ قال تعالى:يمنع
﴿ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ
فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 85].
من المعلوم أن الدين كلُّ، لا يقبل أن يتجزَّأ من جهة القبول به والإذعان له، وأن من رفض حكمًا
من أحكام الله سبحانه وتعالى، وكفَر به، واعتقد أنه لا يصلح لهذا الزمان، وأن تطبيقه يجب أن
يُعرضَ على العقل، أو على التصويت، فإن وافَق ذلك أحكام الله سبحانه وتعالى، كان بهايمنع
ونِعمت، وإن لم يوافق أحكام الله سبحانه وتعالى، تركنا ما أنزل الله سبحانه وتعالى وراء ظهورنا
واتَّبعنا عقولنا ونتيجة التصويت، من زعم ذلك فهو كافرٌ مشرك بالله تعالى.
وتطبيق شرع الله واجب بإجماع المسلمين، وهو امتثال أمره في كتابه:
﴿ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ﴾ [المائدة: 49].
فمثلًا عدم تواصي الإنسان بالحق يجعله من الخاسرين؛ عن أبي سفيان عن جابر قال:يمنع
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوحى الله عز وجل إلى جبريل عليه السلام أن أقلب مدينةيمنع
كذا وكذا بأهلها، قال: فقال يا رب إن فيهم عبدك فلانًا لم يَعصك طرفة عينٍ، قال: فقال:يمنع
اقلِبها عليهم فإن وجْهه لم يتمعَّر فيَّ ساعةً قطُّ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:يمنع
(إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخُذوا على يديه، أوشك أن يعمَّهم الله بعقابٍ منه )
رواه أبو داود والترمذي والنسائي بأسانيد صحيحة.
وقد روى الإمام أحمد من حديث حذيفة بن اليمان أن النبي صلى الله عليه وسلميمنع
قال: "والذي نفسي بيده، لتأمرُنَّ بالمعروف، ولتنهونَّ عن المنكر، أو ليوشكنَّ اللهيمنع
أن يبعث عليكم عقابًا من عنده، ثم لَتَدْعُنَّهُ فلا يُستجيب لكم).
فهذا منهجُ الله،يمنعفاز وأفلَح مَن أخذه وطبَّقه مَرضاةً لله، وخسِر مَن أعرَض عنه
وأخذَ بهوى نفسه، وما أكثرَ الخاسرين!