من الأعجازِ اللّغويِّ في القرآنِ
(في أدنى الأرض)
من دلائل إعجاز القرآن الكريم أنَّه أنبأ عنِ المستقبل، وقد وقع ما أنبأ اللهُ به، من هذا قوله تعالى: ﴿الم1/30غُلِبَتِ الرُّومُ2/30فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ3/30فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [الروم: 1- 4].
يعنينا من هذه الآية كلمة: ﴿فِي أَدْنَى الْأَرْضِ﴾، ماذا يريد الله بها؟ وأيُّ مكانٍ هو أدنى الأرض؟ الأرض مرةٌ، ولأنها مرةٌ فخطوطها متّصلةٌ، ومستمرّةٌ، وهو الشكل الهندسيُّ الوحيد الذي إذا سرتَ بخطّ عليه امتدَّ إلى ما لا نهاية، وليس لهذا الشكل حوافٌ، وقد أشار القرآن الكريم في آيات أخرى إلى كُروِيَّة الأرضِ قال سبحانه: ﴿وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا﴾ [الحجر: 19]، أي أنّ الخطوط على الأرض لا تنقطع، ولا تقف عند حدٍّ، بل إنّها تتَّصل، فلو اتَّجهت نحو الشّمال نظرياًّ، ثم وصلت إلى القطب، وعُدت بعدها في نصف الكرة الآخر لعدت إلى النقطة التي بدأت منها، هذا معنى: ﴿ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا﴾.
إنّ في هذه الآية إشارةً إلى أنّ الأرض كرةٌ، ولكن ما معنى ﴿فِي أَدْنَى الْأَرْضِ﴾؟ إنّ كلمة: ﴿أَدْنَى﴾ تعني شيئين؛ تعني أنّه الأسفلُ، وتعني أنَّه الأقربُ، فإذا استبعدنا معنى الأقرب لكون الأرض كرةً، بقيَ المعنى: هو الأسفل، وقد أجمعَ المؤرخون على أنّ المعركة التي انتصر فيها الرُّوم على الفرس تحقيقاً لوعد الله عز وجل في بضع سنين كانت في الأغْرار، في أغوار فلسطين، حيث اتَّجَهَ بعض علماء المسلمين إلى أكبر علماء الجيولوجيا في العالم الغربيِّ، وسأله هذا السُّؤال: أيُّ مكانٍ في الأرض هو أشدُّها انخفاضاً؟ لو قلنا: أيّ مكانٍ على سطح الأرض بما فيها البحر، لأجاب هذا العالم: إنَّه خليج مريانة، أو إنّه وادي مريانة، إذ إنّه في أعمق نقطةٍ في قعر البحار، هذه النُّقطة يزيد انخفاضها على اثني عشر ألف مترٍ، ولكنّ أدنى الأرض اليابسة تقع في أرض فلسطين، ولم يكن وقت نزول هذه الآية بوسع الإنسان أنْ يمسحَ القاراتِ الخمسَ، وأن يعرف ارتفاع أعلى نقطةٍ فيها، وأدنى نقطةٍ في انخفاضها، ولكنّ القرآن أشار إلى أنّ الروم غُلبت في أدنى الأرض، وهم من بعد غَلبهم سيغلبون، وأدنى الأرض يعني أخفض نقطةٍ في الأرض، وقد توافقت كتبُ التاريخ مع قوله تعالى في أنّ أخفض نقطةٍ في لأرض هي غور فلسطين 392م تحت سطح البحر، وهو البحر الميت.
إنّ في القرآن آياتٍ – كما قال سيدنا عليٌّ رضي الله عنه – لمَّ تُفسَّر بعد، وهذا مصداق قوله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ [فصلت: 53].
إنَّه كتابُ الله، وإنَّ خالق الكون يعلم أيَّ نقطةٍ في الأرض أخفض من غيرها، بل إنّ هناك آيةً أخرى تؤدِّي بعض المعنى الذي نحن بصدده، قال تعالى: ﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾ [الحج: 27]. لم يقلِ اللهُ عز وجل: وعلى كلّ ضامرٍ يأتين من كلّ فجٍّ بعيدٍ، فلو أنّ الأرض مسطحةٌ لكانت كلمة (بعيد) نسب من كلمةِ ﴿عَمِيقٍ﴾، ولأنّ الأرضَ كرةٌ، وأنّك كلّما ابتعدت في سطح الأرض عن نقطةٍ ما انحنى المسارُ، فجاءت كلمة ﴿عَمِيقٍ﴾، وكلّما ابتعت عن مكّةَ فلا بدّ من أنْ يكون المسارُ منحنياً، فيُصبحُ هذا الفجُّ عميقاً، وهو أصحُّ من أنْ يوصفَ بأنّه بعيدٌ، ﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾
] |
|
|
[/ALIGN]