{فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (36)}
قوله تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيه} فيه عشر مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها} قرأ الجماعة {فَأَزَلَّهُمَا} بغير ألف، من الزلة وهي الخطيئة، أي استزلهما وأوقعهما فيها. وقرأ حمزة {فأزالهما} بألف، من التنحية، أي نحاهما. يقال: أزلته فزال. قال ابن كيسان: فأزالهما من الزوال، أي صرفهما عما كانا عليه من الطاعة إلى المعصية.
قلت: وعلى هذا تكون القراءتان بمعنى، إلا أن قراءة الجماعة أمكن في المعنى. يقال منه: أزللته فزل. ودل على هذا قوله تعالى: {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا} [آل عمران: 155]، وقوله: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ} والوسوسة إنما هي إدخالهما في الزلل بالمعصية، وليس للشيطان قدرة على زوال أحد من مكان إلى مكان إنما قدرته على إدخاله في الزلل، فيكون ذلك سببا إلى زواله من مكان إلى مكان يذنبه. وقد قيل: إن معنى أزلهما من زل عن المكان إذا تنحى، فيكون في المعنى كقراءة حمزة من الزوال. قال امرؤ القيس:
يزل الغلام الخف عن صهواته *** ويلوي بأثواب العنيف المثقل
وقال أيضا:
كميت يزل اللبد عن حال متنه *** كما زلت الصفواء بالمتنزل
الثانية قوله تعالى: {فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ} إذا جعل أزال من زال عن المكان فقوله: {فَأَخْرَجَهُما} تأكيد وبيان للزوال، إذ قد يمكن أن يزولا عن مكان كانا فيه إلى مكان آخر من الجنة، وليس كذلك، وإنما كان إخراجهما من الجنة إلى الأرض، لأنهما خلقا منها، وليكون آدم خليفة في الأرض. ولم يقصد إبليس- لعنه الله- إخراجه منها وإنما قصد إسقاطه من مرتبته وإبعاده كما أبعد هو، فلم يبلغ مقصده ولا أدرك مراده، بل ازداد سخنة عين وغيظ نفس وخيبة ظن. قال الله جل ثناؤه: {ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى} [طه: 122] فصار عليه السلام خليفة الله في أرضه بعد أن كان جارا له في داره، فكم بين الخليفة والجار! صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ونسب ذلك إلى إبليس، لأنه كان بسببه وإغوائه. ولا خلاف بين أهل التأويل وغيرهم أن إبليس كان متولي إغواء آدم، واختلف في الكيفية، فقال ابن مسعود وابن عباس وجمهور العلماء أغواهما مشافهة، ودليل ذلك قوله تعالى: {وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ} والمقاسمة ظاهرها المشافهة.
وقال بعضهم، وذكره عبد الرزاق عن وهب بن منبه،: دخل الجنة في فم الحية وهى ذات أربع كالبختية من أحسن دابة خلقها الله تعالى بعد أن عرض نفسه على كثير من الحيوان فلم يدخله إلا الحية، فلما دخلت به الجنة خرج من جوفها إبليس فأخذ من الشجرة التي نهى الله آدم وزوجه عنها فجاء بها إلى حواء فقال: انظري إلى هذه الشجرة، ما أطيب ريحها وأطيب طعمها وأحسن لونها! فلم يزل يغويها حتى أخذتها حواء فأكلتها. ثم أغوى آدم، وقالت له حواء: كل فإني قد أكلت فلم يضرني، فأكل منها فبدت لهما سوآتهما وحصلا في حكم الذنب، فدخل آدم في جوف الشجرة، فناداه ربه: أين أنت؟ فقال: أنا هذا يا رب، قال: ألا تخرج؟ قال أستحي منك يا رب، قال: أهبط إلى الأرض التي خلقت منها. ولعنت الحية وردت قوائمها في جوفها وجعلت العداوة بينها وبين بني آدم، ولذلك أمرنا بقتلها، على ما يأتي بيانه. وقيل لحواء: كما أدميت الشجرة فكذلك يصيبك الدم كل شهر وتحملين وتضعين كرها تشرفين به على الموت مرارا. زاد الطبري والنقاش: وتكوني سفيهة وقد كنت حليمة. وقالت طائفة: إن إبليس لم يدخل الجنة إلى آدم بعد ما أخرج منها وإنما أغوى بشيطانه وسلطانه ووسواسه التي أعطاه الله تعالى، كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم». والله أعلم. وسيأتي في الأعراف أنه لما أكل بقي عريانا وطلب ما يستتر به فتباعدت عنه الأشجار وبكتوه بالمعصية، فرحمته شجرة التين، فأخذ من ورقه فاستتر به، فبلي بالعري دون الشجر. والله أعلم.
وقيل: إن الحكمة في إخراج آدم من الجنة عمارة الدنيا.
الثالثة: يذكر أن الحية كانت خادم آدم عليه السلام في الجنة فخانته بأن مكنت عدو الله من نفسها وأظهرت العداوة له هناك، فلما أهبطوا تأكدت العداوة وجعل رزقها التراب، وقيل لها: أنت عدو بني آدم وهم أعداؤك وحيث لقيك منهم أحد شدخ رأسك. روى ابن عمر عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «خمس يقتلهن المحرم» فذكر الحية فيهن. وروي أن إبليس قال لها: أدخليني الجنة وأنت في ذمتي، فكان ابن عباس يقول: أخفروا ذمة إبليس. وروت ساكنة بنت الجعد عن سراء بنت نبهان الغنوية قالت: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «اقتلوا الحيات صغيرها وكبيرها وأسودها وأبيضها فإن من قتلها كانت له فداء من النار ومن قتلته كان شهيدا». قال علماؤنا: وإنما كانت له فداء من النار لمشاركتها إبليس وإعانته على ضرر آدم وولده، فلذلك كان من قتل حية فكأنما قتل كافرا. وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يجتمع كافر وقاتله في النار أبدا». أخرجه مسلم وغيره.
الرابعة: روى ابن جريج عن عمرو بن دينار عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود قال: كنا مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بمنى فمرت حية فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقتلوها» فسبقتنا إلى حجر فدخلته، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هاتوا بسعفة ونار فأضرموها عليه نارا». قال علماؤنا: وهذا الحديث يخص نهيه عليه السلام عن المثلة وعن أن يعذب أحد بعذاب الله تعالى، قالوا: فلم يبق لهذا العدو حرمة حيث فاته حتى أوصل إليه الهلاك من حيث قدر. فإن قيل: قد روي عن إبراهيم النخعي أنه كره أن تحرق العقرب بالنار، وقال: هو مثلة. قيل له: يحتمل أن يكون لم يبلغه هذا الأثر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعمل على الأثر الذي جاء: «لا تعذبوا بعذاب الله» فكان على هذا سبيل العمل عنده. فإن قيل: فقد روى مسلم عن عبد الله بن مسعود قال: كنا مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غار وقد أنزلت عليه: {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً} [المرسلات: 1] فنحن نأخذها من فيه رطبة، إذ خرجت علينا حية، فقال: «اقتلوها»، فابتدرناها لنقتلها فسبقتنا، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وقاها الله شركم كما وقاكم شرها». فلم يضرم نارا ولا احتال في قتلها. قيل له: يحتمل أن يكون لم يجد نارا فتركها، أو لم يكن الجحر بهيئة ينتفع بالنار هناك مع ضرر الدخان وعدم وصوله إلى الحيوان. والله أعلم. وقوله: «وقاها الله شركم» أي قتلكم إياها «كما وقاكم شرها» أي لسعها.
الخامسة: الامر بقتل الحيات من باب الإرشاد إلى دفع المضرة المخوفة من الحيات، فما كان منها متحقق الضرر وجبت المبادرة إلى قتله، لقوله: «اقتلوا الحيات واقتلوا ذا الطفيتين والأبتر فإنهما يخطفان البصر ويسقطان الحبل». فخصهما بالذكر مع أنهما دخلا في العموم ونبه على ذلك بسبب عظم ضررهما. وما لم يتحقق ضرره فما كان منها في غير البيوت قتل أيضا لظاهر الامر العام، ولان نوع الحيات غالبه الضرر، فيستصحب ذلك فيه، ولأنه كله مروع بصورته وبما في النفوس من النفرة عنه، ولذلك قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله يحب الشجاعة ولو على قتل حية». فشجع على قتلها.
وقال فيما خرجه أبو داود من حديث عبد الله بن مسعود مرفوعا: «اقتلوا الحيات كلهن فمن خاف ثأرهن فليس مني». والله أعلم.
السادسة: ما كان من الحيات في البيوت فلا يقتل حتى يؤذن ثلاثة أيام، لقوله عليه السلام: «إن بالمدينة جنا قد أسلموا فإذا رأيتم منهم شيئا فأذنوه ثلاثة أيام». وقد حمل بعض العلماء هذا الحديث على المدينة وحدها لإسلام الجن بها، قالوا: ولا نعلم هل أسلم من جن غير المدينة أحد أو لا، قاله ابن نافع.
وقال مالك: نهى عن قتل جنان البيوت في جميع البلاد. وهو الصحيح، لأن الله عز وجل قال: {وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} [الأحقاف: 29] الآية.
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «أتاني داعي الجن فذهبت معهم فقرأت عليهم القرآن» وفيه: وسألوه الزاد وكانوا من جن الجزيرة، الحديث. وسيأتي بكماله في سورة الجن إن شاء الله تعالى. وإذا ثبت هذا فلا يقتل شيء منها حتى يحرج عليه وينذر، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
السابعة: روى الأئمة عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة أنه دخل على أبي سعيد الخدري في بيته، قال: فوجدته يصلي، فجلست أنتظره حتى يقضي صلاته، فسمعت تحريكا في عراجين ناحية البيت، فالتفت فإذا حية، فوثبت لأقتلها، فأشار إلي أن أجلس فجلست، فلما انصرف أشار إلى بيت في الدار فقال: أترى هذا البيت؟ فقلت نعم، فقال: كان فيه فتى منا حديث عهد بعرس، قال: فخرجنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الخندق، فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإنصاف النهار فيرجع إلى أهله، فاستأذنه يوما، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خذ عليك سلاحك فإني أخشى عليك قريظة». فأخذ الرجل سلاحه ثم رجع، فإذا امرأته بين البابين قائمة فأهوى إليها بالرمح ليطعنها به وأصابته غيرة، فقالت له: اكفف عليك رمحك، وادخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني! فدخل فإذا بحية عظيمة منطوية على الفراش، فأهوى إليها بالرمح فانتظمها به، ثم خرج فركزه في الدار فاضطربت عليه، فما يدرى أيهما كان أسرع موتا، الحية أم الفتى! قال: فجئنا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكرنا ذلك له، وقلنا: ادع الله يحييه لنا، فقال: استغفروا لأخيكم ثم قال:- «إن بالمدينة جنا قد أسلموا فإذا رأيتم منهم شيئا فأذنوه ثلاثة أيام فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان».
وفي طريق أخرى فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن لهذه البيوت عوامر فإذا رأيتم شيئا منها فحرجوا عليها ثلاثا فإن ذهب وإلا فاقتلوه فإنه كافر- وقال لهم:- اذهبوا فادفنوا صاحبكم». قال علماؤنا رحمة الله عليهم: لا يفهم من هذا الحديث أن هذا الجان الذي قتله هذا الفتى كان مسلما وأن الجن قتلته به قصاصا، لأنه لو سلم أن القصاص مشروع بيننا وبين الجن لكان إنما يكون في العمد المحض، وهذا الفتى لم يقصد ولم يتعمد قتل نفس مسلمة، إذ لم يكن عنده علم من ذلك، وإنما قصد إلى قتل ما سوغ قتل نوعه شرعا، فهذا قتل خطأ ولا قصاص فيه. فالأولى أن يقال: إن كفار الجن أو فسقتهم قتلوا الفتى بصاحبهم عدوا وانتقاما. وقد قتلت سعد بن عبادة رضي الله عنه، وذلك أنه وجد ميتا في مغتسله وقد اخضر جسده، ولم يشعروا بموته حتى سمعوا قائلا يقول ولا يرون أحدا:
قد قتلنا سيد الخز *** رج سعد بن عباده
ورميناه بسهمين *** فلم نخط فؤاده
وإنما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن بالمدينة جنا قد أسلموا» ليبين طريقا يحصل به التحرز من قتل المسلم منهم ويتسلط به على قتل الكافر منهم. روي من وجوه أن عائشة زوج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قتلت جانا فأريت في المنام أن قائلا يقول لها: لقد قتلت مسلما، فقالت: لو كان مسلما لم يدخل على أزواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: ما دخل عليك إلا وعليك ثيابك. فأصبحت فأمرت باثني عشر ألف درهم فجعلت في سبيل الله.
وفي رواية: ما دخل عليك إلا وأنت مستترة، فتصدقت وأعتقت رقابا.
وقال الربيع بن بدر: الجان من الحيات التي نهى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قتلها هي التي تمشي ولا تلتوي، وعن علقمة نحوه.
الثامنة: في صفة الإنذار، قال مالك: أحب إلي أن ينذروا ثلاثة أيام. وقاله عيسى بن دينار، وإن ظهر في اليوم مرارا. ولا يقتصر على إنذاره ثلاث مرار في يوم واحد حتى يكون في ثلاثة أيام.
وقيل: يكفي ثلاث مرار، لقوله عليه السلام: «فليؤذنه ثلاثا»، وقوله: «حرجوا عليه ثلاثا» ولان ثلاثا للعدد المؤنث، فظهر أن المراد ثلاث مرات. وقول مالك أولى، لقوله عليه السلام: «ثلاثة أيام». وهو نص صحيح مقيد لتلك المطلقات، ويحمل ثلاثا على إرادة ليالي الأيام الثلاث، فغلب الليلة على عادة العرب في باب التاريخ فإنها تغلب فيها التأنيث. قال مالك: ويكفي في الإنذار أن يقول: أحرج عليك بالله واليوم الآخر ألا تبدوا لنا ولا تؤذونا. وذكر ثابت البناني عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه ذكر عنده حيات البيوت فقال: إذا رأيتم منها شيئا في مساكنكم فقولوا: أنشدكم بالعهد الذي أخذ عليكم نوح عليه السلام، وأنشدكم بالعهد الذي أخذ عليكم سليمان عليه السلام، فإذا رأيتم منهن شيئا بعد فاقتلوه.
قلت: وهذا يدل بظاهره أنه يكفي في الاذن مرة واحدة، والحديث يرده. والله أعلم. وقد حكى ابن حبيب عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه يقول: «أنشدكن بالعهد الذي أخذ عليكن سليمان- عليه السلام- ألا تؤذيننا وألا تظهرن علينا».
التاسعة: روى جبير عن نفير عن أبي ثعلبة الخشني- واسمه جرثوم- أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «الجن على ثلاثة أثلاث فثلث لهم أجنحة يطيرون في الهواء وثلث حيات وكلاب وثلث يحلون ويظعنون».
وروى أبو الدرداء- واسمه عويمر- قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خلق الجن ثلاثة أثلاث فثلث كلاب وحيات وخشاش الأرض وثلث ريح هفافة وثلث كبني آدم لهم الثواب وعليهم العقاب وخلق الله الانس ثلاثة أثلاث فثلث لهم قلوب لا يفقهون بها واعين لا يبصرون بها وأذان لا يسمعون بها إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا وثلث أجسادهم كأجساد بني آدم وقلوبهم قلوب الشياطين وثلث في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله».
العاشرة: ما كان من الحيوان أصله الاذاية فإنه يقتل ابتداء، لأجل إذايته من غير خلاف، كالحية والعقرب والفأر والوزغ، وشبهه. وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم...». وذكر الحديث. فالحية أبدت جوهرها الخبيث حيث خانت آدم بأن أدخلت إبليس الجنة بين فكيها، ولو كانت تبرزه ما تركها رضوان تدخل به.
وقال لها إبليس أنت في ذمتي، فأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقتلها وقال: «اقتلوها ولو كنتم في الصلاة» يعني الحية والعقرب. والوزغة نفخت على نار إبراهيم عليه السلام من بين سائر الدواب فلعنت. وهذا من نوع ما يروى في الحية. وروي عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «من قتل وزغة فكأنما
قتل كافرا».
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من قتل وزغة في أول ضربة كتبت له مائة حسنة وفي الثانية دون ذلك وفي الثالثة دون ذلك».
وفي رواية أنه قال: «في أول ضربة سبعون حسنة». والفأرة أبدت جوهرها بأن عمدت إلى حبال سفينة نوح عليه السلام فقطعتها.
وروى عبد الرحمن بن أبي نعم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «يقتل المحرم الحية والعقرب والحدأة والسبع العادي والكلب العقور والفويسقة». واستيقظ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد أخذت فتيلة لتحرق البيت فأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقتلها. والغراب أبدى جوهره حيث بعثه نبي الله نوح عليه السلام من السفينة ليأتيه بخبر الأرض فترك أمره وأقبل على جيفة. هذا كله في معنى الحية، فلذلك ذكرناه. وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان في التعليل في المائدة وغيرها إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} فيه سبع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا} حذفت الألف من {اهْبِطُوا} في اللفظ لأنها ألف وصل. وحذفت الألف من {قُلْنَا} في اللفظ لسكونها وسكون الهاء بعدها.
وروى محمد بن مصفى عن أبي حيوة ضم الباء في: {اهْبِطُوا}، وهي لغة يقويها أنه غير متعد والأكثر في غير المتعدي أن يأتي على يفعل. والخطاب لآدم وحواء والحية والشيطان، في قول ابن عباس.
وقال الحسن: آدم وحواء والوسوسة.
وقال مجاهد والحسن أيضا: بنو آدم وبنو إبليس. والهبوط: النزول من فوق إلى أسفل، فأهبط آدم بسرنديب في الهند بجبل يقال له بوذا ومعه ريح الجنة فعلق بشجرها وأوديتها فامتلأ ما هناك طيبا، فمن ثم يؤتي بالطيب من ريح آدم عليه السلام. وكان السحاب يمسح رأسه فأصلع، فأورث ولده الصلع.
وفي البخاري عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «خلق الله آدم وطوله ستون ذراعا» الحديث وأخرجه مسلم وسيأتي. وأهبطت حواء بجدة وإبليس بالابلة، والحية ببيسان، وقيل: بسجستان. وسجستان أكثر بلاد الله حيات، ولولا العربد الذي يأكلها ويفني كثيرا منها لاخليت سجستان من أجل الحيات، ذكره أبو الحسن المسعودي.
الثانية: قوله تعالى: {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}... {بَعْضُكُمْ} مبتدأ، {عَدُوٌّ} خبره والجملة في موضع نصب على الحال، والتقدير وهذه حالكم. وحذفت الواو من و{بَعْضُكُمْ} لان في الكلام عائدا، كما يقال: رأيتك السماء تمطر عليك. والعدو: خلاف الصديق، وهو من عدا إذا ظلم. وذيب عدوان: يعدو على الناس. والعدوان: الظلم الصراح.
وقيل: هو مأخوذ من المجاوزة، من قولك: لا يعدوك هذا الامر، أي لا يتجاوزك. وعداه إذا جاوزه، فسمي عدوا لمجاوزة الحد في مكروه صاحبه، ومنه العدو بالقدم لمجاوزة الشيء، والمعنيان متقاربان، فإن من ظلم فقد تجاوز.
قلت: وقد حمل بعض العلماء قوله تعالى: {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [البقرة: 36] على الإنسان نفسه، وفيه بعد وإن كان صحيحا معنى. يدل عليه قوله عليه السلام: «إن العبد إذا أصبح تقول جوارحه للسانه اتق الله فينا فإنك إذا استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا». فإن قيل: كيف قال: {عدو} ولم يقل أعداء، ففيه جوابان أحدهما: أن بعضا وكلا يخبر عنهما بالواحد على اللفظ وعلى المعنى، وذلك في القرآن، قال الله تعالى: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً} [مريم: 95] على اللفظ، وقال تعالى: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ} [النمل: 87] على المعنى. والجواب الآخر: أن عدوا يفرد في موضع الجمع، قال الله عز وجل: {وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف: 50] بمعنى أعداء، وقال تعالى: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ} [المنافقون: 4].
وقال ابن فارس: العدو اسم جامع للواحد والاثنين والثلاثة والتأنيث، وقد يجمع.
الثالثة: لم يكن إخراج الله تعالى آدم من الجنة وإهباطه منها عقوبة له لأنه أهبطه بعد أن تاب عليه وقبل توبته وإنما أهبطه إما تأديبا وإما تغليظا للمحنة. والصحيح في إهباطه وسكناه في الأرض ما قد ظهر من الحكمة الأزلية في ذلك وهي نشر نسله فيها ليكلفهم ويمتحنهم ويرتب على ذلك ثوابهم وعقابهم الأخروي إذ الجنة والنار ليستا بدار تكليف فكانت تلك الاكلة سبب إهباطه من الجنة. ولله أن يفعل ما يشاء. وقد قال: {إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}. وهذه منقبة عظيمة وفضيلة كريمة شريفة وقد تقدمت الإشارة إليها مع أنه خلق من الأرض. وإنما قلنا إنما أهبطه بعد أن تاب عليه لقوله ثانية: {قُلْنَا اهْبِطُوا} وسيأتي.
الرابعة: قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} ابتداء وخبر، أي موضع استقرار. قاله أبو العالية وابن زيد.
وقال السدي: {مُسْتَقَرٌّ} يعني القبور.
قلت: وقول الله تعالى: {جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً} [غافر: 64] يحتمل المعنيين. والله أعلم.
الخامسة: قوله تعالى: {وَمَتاعٌ} المتاع ما يستمتع به من أكل ولبس وحياة وحديث وأنس وغير ذلك، ومنه سميت متعة النكاح لأنها يتمتع بها. وأنشد سليمان بن عبد الملك حين وقف على قبر أبنه أيوب إثر دفنه:
وقفت على قبر غريب بقفرة *** متاع قليل من حبيب مفارق
السادسة: قوله تعالى: {إِلى حِينٍ} اختلف المتأولون في الحين على أقوال، فقالت فرقة إلى الموت وهذا قول من يقول: المستقر هو المقام في الدنيا.
وقيل: إلى قيام الساعة، وهذا قول من يقول: المستقر هو القبور وقال الربيع: {إِلى حِينٍ} إلى أجل والحين: الوقت البعيد فحينئذ تبعيد من قولك الآن قال خويلد:
كابي الرماد عظيم القدر جفنته *** حين الشتاء كحوض المنهل اللقف
لقف الحوض لقفا، أي تهور من أسفله واتسع. وربما أدخلوا عليه التاء قال أبو وجزة:
العاطفون تحين ما من عاطف *** والمطعمون زمان أين المطعم
والحين أيضا: المدة ومنه قوله تعالى: {هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} [الإنسان: 1] والحين: الساعة قال الله تعالى: {أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ} [الزم 58] قال ابن عرفة: الحين القطعة من الدهر كالساعة فما فوقها. وقوله: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ} [المؤمنون: 54] أي حتى تفنى آجالهم وقول تعالى: {تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ} [إبراهيم: 25] أي كل سنة وقيل: بل كل ستة أشهر وقيل: بل غدوة وعشيا قال الأزهري: الحين اسم كالوقت يصلح لجميع الأزمان كلها طالت أو قصرت. والمعنى أنه ينتفع بها في كل وقت ولا ينقطع نفعها البتة. قال: والحين يوم القيامة. والحين: الغدوة والعشية قال الله تعالى: {فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] ويقال: عاملته محاينة من الحين وأحينت بالمكان إذا أقمت به حينا. وحان حين كذا أي قرب. قالت بثينة:
وإن سلوّي عن جميل لساعة *** من الدهر ما حانت ولا حان حينها
السابعة: لما اختلف أهل اللسان في الحين اختلف فيه أيضا علماؤنا وغيرهم فقال الفراء: الحين حينان: حين لا يوقف على حده والحين الذي ذكر الله جل ثناؤه: {تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها} [إبراهيم: 25] ستة أشهر قال ابن العربي: الحين المجهول لا يتعلق به حكم والحين المعلوم هو الذي تتعلق به الأحكام ويرتبط به التكليف وأكثر المعلوم سنة. ومالك يرى في الأحكام والايمان أعم الأسماء والأزمنة. والشافعي يرى الأقل. وأبو حنيفة توسط فقال ستة أشهر. ولا معنى لقوله لان المقدرات عنده لا تثبت قياسا وليس فيه نص عن صاحب الشريعة وإنما المعول على المعنى بعد معرفة مقتضى اللفظ لغة فمن نذر أن يصلي حينا فيحمل على ركعة عند الشافعي لأنه أقل النافلة قياسا على ركعة الوتر.
وقال مالك وأصحابه: أقل النافلة ركعتان فيقدر الزمان بقدر الفعل وذكر ابن خويز منداد في أحكامه: أن من حلف ألا يكلم فلانا حينا أو لا يفعل كذا حينا أن الحين سنة قال: واتفقوا في الأحكام أن من حلف ألا يفعل كذا حينا أولا يكلم فلانا حينا أن الزيادة على سنة لم تدخل في يمينه.
قلت: هذا الاتفاق إنما هو في المذهب قال مالك رحمه الله: من حلف ألا يفعل شيئا إلى حين أو زمان أو دهر، فذلك كله سنة.
وقال عنه ابن وهب: إنه شك في الدهر أن يكون سنة وحكى ابن المنذر عن يعقوب وابن الحسن: أن الدهر ستة أشهر. وعن ابن عباس وأصحاب الرأي وعكرمة وسعيد بن جبير وعامر الشعبي وعبيدة في قوله تعالى. {تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها} [إبراهيم: 25] أنه ستة أشهر.
وقال الأوزاعي وأبو عبيد الحين ستة أشهر وليس عند الشافعي في الحين وقت معلوم ولا للحين غاية قد يكون الحين عنده مدة الدنيا. وقال: لانحنثه أبدا، والورع أن يقضيه قبل انقضاء يوم وقال أبو ثور وغيره الحين والزمان على ما تحتمله اللغة يقال: قد جئت من حين ولعله لم يجئ من نصف يوم. قال إلكيا الطبري الشافعي وبالجملة الحين له مصارف ولم ير الشافعي تعيين محمل من هذه المحامل لأنه مجمل لم يوضع في اللغة لمعنى معين.
وقال بعض العلماء في قول تعالى: {إِلى حِينٍ} فائدة بشارة إلى آدم عليه السلام ليعلم أنه غير باق فيها ومنتقل إلى الجنة التي وعد بالرجوع إليها وهي لغير آدم دالة على المعاد فحسب والله أعلم.