وهي الدلالة المَحَصَّلَة من استخدام الألفاظ أو الصور الكلامية في الجملة المكتوبة، أو المنطوقة على المستوى التحليلي أو التركيبي".
ومثال ذلك ما ذكره أبو عبيد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (عَائِدُ المريض على مَخَارِفِ الجنةِ حتى يرجع).
فيمكن تحليل هذه العبارة، كما يلي:
عائد
المريض
على
مخارف
الجنة
حتى
يرجع
مبتدأ
مضاف إليه
حرف جر
اسم مجرور
مضاف إليه
حرف نصب
فعل مضارع
(شبه جملة في محل رفع خبر المبتدأ: عائد
وهناك علاقات تركيبية داخل هذه العبارة، وهي علاقة الإضافة بين (عائد) و(المريض)، وكذلك بين (مخارف) و(الجنة)، وهناك علاقة التلازم بين الجار والمجرور، وبين المبتدأ والخبر، والعبارة تبدأ باسم الفاعل (عائد) تفيد:
1- دلالة صرفية، وهي اسم الفاعل.
2- دلالة نحوية، وهي الابتداء.
فالصيغة الصرفية والوظيفة النحوية لهذه الكلمة تتضافران لتحقيق معرفة حدود تلك الكلمة بدقة، وكلمة (المريض) تفيد تخصيص العيادة، وكذلك كلمة (الجنة) تفيد تخصيص المخارف بها، وكلمة (على) تفيد الظرفية، و(حتى) تفيد انتهاء الغاية، والفعل (يعود) مضارع يفيد الاستمرار.
ولا شك أن الترتيب المتحقق بين هذه الكلمات يؤدي معنى مفيدًا، أما لو حدث تغيير في هذا الترتيب، فسوف يضيع المعنى بضياع هذا الترتيب، ولا يمكن فَهْم العبارة على وجهها الصحيح، فلو قيل مثلًا: الجنة حتى عائد يعود مخارف على المريض، لكان هذا هذيانًا، ولكن إذا رُوعيت الهندسة التركيبية للجملة العربية، كان حقًّا للمعنى أن يُفْهَم، ومن ذلك ما ذكره ابن قتيبة في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال لرجل أتاه (أرَبُّ إبلٍ أنت أم رَبُّ غَنَم؟)، فإذا اتبعنا التحليل السابق يمكن القول بأن:
الهمزة
رب
إبل
أنت
أم
رب
غنم
أداة استفهام
خبر مقدم مضاف
مضاف إليه
مبتدأ مؤخر
حرف عطف
خبر مقدم مضاف
مضاف إليه
وفي العبارة علاقات تركيبية، فالإضافة في كل من (رب إبل)، و(رب غنم) أفادت التخصيص، كما أفادت الهمزة الاستفهام، ولا شك أن هذه الدلالات النحوية تتشابك مع غيرها من الدلالات، فالاستفهام الذي أداته الهمزة يتطلب نغمة مخصوصة؛ حتى يفهم السامع أن الجملة استفهامية، كما أفادت (أم) التي وقعت بين جملتين اسميتين مؤلفة كل منهما من مبتدأ وخبر إرادة التعيين بين كون الرجل صاحب إبل أو صاحب غنم.
رابعًا: الدلالة المعجمية:
هي تلك التي نصت عليها المعاجم في معنى الكلمة.
قال أحد المحدثين: "المراد بالمعنى المعجمي: ما يدل عليه اللفظ بحسب أصل وضعه في اللغة ".
ويحدد المُحْدَثُون من اللغويين ثلاث خصائص للمعنى المعجمي، تعد من أبرز خصائص هذا المعنى، تلك هي:
1- أنه عام.
2- أنه متعدد.
3- أنه غير ثابت.
وهناك أمثلة كثيرة وردت في كتب الغريب تمثل هذه الدلالة، وقد استعملت في معانيها الأولية مع استعمالها في معانيها الجديدة، أي إنها اتَّسمت بالسمات السابقة، من ذلك ألفاظ الوضوء، والصلاة، والزكاة، وغيرها، فلكل من هذه الألفاظ دلالة عامة، جاء الإسلام فخصصها بمعنى معين، فالوضوء "يدل على النظافة والحسن، ومنه قيل: فلان وضيء الوجه؛ أي: نظيفه وحَسنه"، فالوضوء الذي حده الله عز وجل في كتابه للصلاة، هو غسل الوجوه والأيدي إلى المرافق، والمسح بالرؤوس والأرجل..."، فالمعنى الأول هو المعنى المعجمي العام، والثاني متطور عنه.
والصلاة: أصلها في اللغة: الدعاء، ثم جاء الشرع فغيَّر هذه الدلالة، فصارت: "الأفعال المعلومة من القيام، والقعود، والركوع، والسجود، والقراءة، والذكر، وغير ذلك، وسميت بذلك؛ لاشتمالها على الدعاء...".
ومن ذلك: ما ذكره الحربي في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الجَنَّةَ، قَالُوا: ولا أَنْتَ؟! قال: ولا أَنَا إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللّهُ مِنْهُ بِرَحْمَةٍ).
قال أبو نصر: يُغْمِدُ: يُلْبِسُ.
ومنه ما ذكره السرقسطي في حديث عمر رضي الله عنه، وقال له رجل: الصلعان خير أم الفرعان؟ فقال: بل الفرعان.
قال: الفرع: الشعر الكثير.
وما ذكره الخطابي في حديث حذيفة رضي الله عنه أنه قال: القلوب أربعة: قلب مصفح.
قوله: مصفح: أي: ذو وجهين.
خامسًا: الدلالة السياقية:
"وهي الدلالة التي يعينها السياق اللغوي، وهو البيئة اللغوية التي تحيط بالكلمة، أو العبارة، أو الجملة، وتستمد أيضًا من السياق الاجتماعي، وسياق الموقف، وهو المقام الذي يقال فيه الكلام بجميع عناصره، من متكلم ومستمع، وغير ذلك من الظروف المحيطة، والمناسبة التي قيل فيها الكلام".
والسياق له دور عظيم في بيان المعنى المراد، فهو يبين المجمل، ويوضح الغامض، ويخصص العام، قال الزركشي: "السِّيَاقَ مُبَيِّنٌ لِلْمُجْمَلَاتِ مُرَجِّحٌ لِبَعْضِ الْمُحْتَمَلَاتِ وَمُؤَكِّدٌ لِلْوَاضِحَاتِ".
إن السياق رافد مهم من روافد المعنى التي بها يتضح ويبين، وقد توهم بعض الناس أن نظرية السياق كشف أوروبي أو غربي، وأن فيرث وهو زعيم النظرية السياقية هو أول من تنبه إلى قيمة السياق، ونسب كشف سهمه في بيان المعنى إليه، إلا أن الحق يخالف ذلك تمام المخالفة.
لقد كشف علماء العرب عن قيمة السياق في بيان المعنى، وليس أدل على ذلك من جهود المفسرين والبلاغيين والأصوليين في الكشف عن هذه القيمة للسياق.
إن مصطلح السياق قد "استعمل منذ زمن جد مبكر في الرسالة للإمام الشافعي (ت204هـ)".
وجاء محمد القاسم بن الأنباري في صدر كتابه الأضداد بكلام صريح في قيمة السياق، فقال: "إن كلام العرب يصحح بعضه بعضًا، ويرتبط أوله بآخره، ولا يُعْرَف معنى الخطاب منه إلا باستيفائه واستكمال جميع حروفه، فجاز وقوع اللفظة على المعنيين المتضادين؛ لأنه يتقدمهما، ويأتي بعدهما ما يدل على خصوصية أحد المعنيين دون الآخر، ولا يراد بها في حال التكلم والإخبار إلا معنى واحد، فمن ذلك قول الشاعر (الرمل):
كل شيء ما خلا الموت جلل ♦♦♦ والفتى يسعى ويلهيه الأمل
فدل ما تقدم قبل جلل أو تأخر بعده على أن معناه: كل شيء ما خلا الموت يسير، ولا يتوهم ذو عقل وتمييز أن الجلل ها هنا معناه: (عظيم).
يقول د. تمام حسان: "وحين قال البلاغيون: لكل مقام مقال، (أي: عندما راعوا ما يسمى عند المحدثين بسياق الموقف)، ولكل كلمة مع صاحبتها مقام، (أي: عندما راعوا ما يعرف في علم اللغة الحديث بسياق النص)، وقفوا على عبارتين من جوامع الكلم تصدقان على دراسة المعنى في كل اللغات، لا في اللغة العربية الفصحى فقط، وتصلحان للتطبيق في إطار كل الثقافات على حد سواء، ولم يكن مالينوفسكي وهو يصوغ مصطلحه الشهير (context of situation) يعلم أنه مسبوق إلى مفهوم هذا المصطلح بألف أو ما فوقها، إن الذين عرفوا هذا المفهوم قبله سجلوه في كتب لهم تحت اصطلاح المقام، ولكن لم تجد من الدعاية على المستوى العالمي ما وجده اصطلاح مالينوفسكي من تلك الدعاية، بسبب انتشار نفوذ العالم الغربي في كل الاتجاهات".
وقد أشار ابن قتيبة إلى هذا النوع من الدلالات = (الدلالة السياقية أو وجه الحديث كما كان يطلق عليه علماء غريب الحديث)، ورأى أن هذا الجانب أحرى أن يشتغل به العلماء، فقال: ولو يُسِّر (العالم) للصواب، لعلم أن أوجب عليه من (تناول) حديث أسلم سالمها الله، وغفار غفر الله لها، وعصيَّة عصت الله ... أن يسأل عن قوله: (كلُّ مولود يُولَد على الفِطْرة، فأبَواهُ يُهوِّدانه أو يُنصِّرانه، أو يُمجسانه)، ليعلم تأويله، فلا يَعْلَق بقلبه الهَوْل بالقَدَر، وعن قوله: (الحَياءُ شُعْبة من الإِيمان)، كيف جُعِل الحياء وهو غريزة شُعْبة من الإيمان وهو عَمَل؟ ولِمَ سُمِّي الغُراب فاسِقًا والغُرابُ غير مُكَلَّف ولا مأمور؟ وَلِمَ تعوَّذ في وقت من الفَقْر، وسأل الله غناه وغنى مولاه، وسأل في وقت أنْ يُحْييه مِسْكينًا ويُميته مسكينًا، ويحشره في زُمْرة المساكين، وقال: (الفَقْر أحسن بالمؤمن من العِذار الحَسَن على خد الفرس)؟ ليعلم معنى الحديثين، فلا يتوهم على نَقَلة الحديث ما يُشَنِّع به ذوو الأهواء عليهم في مثل هذه الأحاديث من حمل الكذب والمتناقض، حتى قال بعضهم: (يروي أحاديث ونروي نَقْضها)...، وعن قوله: (لَعنَ الله السَّارق يسْرق البَيْضة فَتُقْطَع يدُه، ويسرق الحبل فتقطع يده)، وأهلُ العلم مجمعون على أنَّه لا يقطع ممَّا دون ثمن المِجن ... فإذا احْتجَّ عليهم مُحْتج بهذا الحديث (المجن)، عارضوه بهذا الحديث مع ظاهر الكتاب، وأن يسأل عن قوله: (ضِرْس الكافر في النار مثل أُحُد، وكثافة جِلْده أربعون ذراعًا بذراع الجبار)، وعن قوله: (لا تَسبُّوا الريح؛ فإِنَّها من نَفَس الرحمن)،.
وبعد أن ذكر عددًا من الأحاديث من هذا النوع، قال: وقد كان تَعرُّف هذا وأشباهِه عسيرًا فيما مضى على من طَلَبه لحاجته إلى أنْ يسأل عنه أهل اللغة، ومن يكمل منهم ليُفَسِّر غريبَ الحديث وفتق معانيه، وإِظهار غوامضه قليل، فأما زماننا هذا فقد كفى حَمَلة الحديث فيه مَؤُنَة التفسير والبحث بما ألَّفه أبو عُبَيْد القاسم بن سلاَّم، ثم بما ألَّفناه في هذا بحمد الله.
وهذا لا شك فضل كبير ينسب إليهم، ومن هذه الأمثلة: ما ذكره أبو عبيد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الله تبارك وتعالى جعل حسنات ابن آدم بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف)، وقال الله عز وجل: (إلا الصوم فإن الصوم لي وأنا أجزي به).
قوله: الصوم لي وأنا أجزي به، وقد علمنا أن أعمال البر كلها لله تعالى، وهو يَجزي بها، فنرى - والله أعلم - أنه إنما خص الصوم بأن يكون هو الذي يتولى جزاءه؛ لأن الصوم لا يظهر من ابن آدم بلسان ولا فعل، فتكتبه الحَفَظَة، وإنما هو نِيَّة بالقلب وإمساك عن حركة المطعم والمشرب والنكاح، يقول: فأنا أتَوَلَّى جزاءه على ما أُحِب من التضعيف، وليس على كتاب كُتِب له، ومما يبين ذلك قوله عليه السلام: (ليس في الصوم رياء)، وذلك أن الأعمال كلها لا تكون إلا بالحركات، إلا الصوم خاصة فإنما هو بالنية التي قد خفيت على الناس، فإذا نواها فكيف يكون ها هنا رياء؟ هذا عندي والله أعلم وجه الحديث.
إن أبا عبيد لم يتناول هذا الحديث بالشرح لغموض في لفظة من ألفاظه، وإنما لغموض المعنى العام (الوجه المقصود) من الحديث، والوقوف على المراد إنما هو بيان للدلالة السياقية.
ومن ذلك ما ذكره ابن قتيبة في حديث النبي أنه قال: (الحَياءُ شُعْبةٌ من الإيمان).
إنَّما جَعَل الحَياء وهو غَريزةٌ شُعْبة من الإيمان وهو اكْتِساب؛ لأن المُسْتحيي يَنْقَطِع بالحَياء عن المَعاصي وإنْ لم يكن له تَقِيَّة، فصار كالإيمان الذي يقطع عنها.
فقد أزال الشارح التناقض بين اعتبار الحياء وهو غريزة شعبة من الإيمان وهو اكتساب.
ومن ذلك ما ذكره السرقسطي في حديث حسان بن ثابت أنه أبرز لسانه، وقال: "والله ما يسرني أن لي به مقولًا من مَعَدّ".
قال: المقول: اللسان، والمقول في غير هذا الموضع: الملك.
فقد ذكر دلالتين للفظ (المقول)، وهما: اللسان، والملك، وقد نص على أن المراد ها هنا: الدلالة الأولى (اللسان)، والذي أدى إلى تحديد هذه الدلالة هو السياق، بدليل ما سبق من قوله: أنه أبرز لسانه وهو سياق الموقف أو الحال، ومن ذلك ما ذكره الخطابي في حديث النبي أنه كان في غزوة هوازن، فقال لأصحابه يومًا: هل من وضوء؟ فجاء رجل بنطفة في إداوة فافتضها...".
فقد نص الخطابي على التضاد في لفظ (النطفة)، وأن لها معنيين، هما: القليل من الماء، والكثير منه، والسياق يعين الدلالة المرادة، وذلك لذكر لفظ (الإداوة) بعد لفظ (النطفة)، والإداوة معروفة، فمهما حملت من الماء فهو قليل.
هذا هو السياق اللغوي، كما أن السياق الاجتماعي = (المقام) يؤيد هذا التفسير، ففي غزوة حنين وقد أصاب المسلمين جهد شديد، حتى كادوا ينحرون إبلهم، فدعا النبي بهذه الإدواة، فصبها في قدح، فتطهروا جميعًا، وكانوا زهاء أربع عشرة مائة.
فهذا الموقف يبين أن المراد بالنطفة في الحديث الماء القليل.
ومن هذا الشَّرَج أيضًا: ما ذكره الخطابي في حديث النبي أنه قال: (إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم).
تأويل هذا على وجهين: أحدهما أن يكون ذلك في أصحاب الوعيد، ومن يرى رأي الغلاة منهم في الخلود على الكبيرة، والإياس من عفو الله، والقنوط من رحمته؛ يقول: فمن رأى هذا الرأي كان أشد هلاكًا، وأعظم وزرًا ممن قارف الخطيئة، ثم لم ييئس من الرحمة.
والوجه الآخر: أن يكون ذلك في الرجل يولع بذكر الناس وإحصاء عيوبهم وعد مساوئهم، فهو لا يزال يقول: هلك الناس، وفسدت نياتهم، وقلت أماناتهم، ويذهب بنفسه عجبًا، ويرى لها على الناس فضلاً؛ يقول: فهذا بما يناله في ذلك من الإثم أشدهم هلاكًا وأعظمهم وزرًا.
وفي هذا الحديث بيان للمعنى العام والأوجه الجائزة فيه.