بسم الله الرحمن الرحيم اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
كانت العاصمة العراقية بغداد في يوم من الأيام عاصمة الخلافة الإسلامية ومركزًا للدولة العباسيّة، حيث تزخر بالمعالم الأثرية من قصور وقلاع ومساجد، والباقية لتشهد على هويتها الحضارية التاريخية العريقة، وسندرج في هذا المقال تفاصيل عن القصر الجعفري.
تعريف بالقصر الجعفري
القصر الجعفري هو قصر أثري قديم تم بنائه في الجانب الشرقيّ من بغداد من قبل جعفر بن يحيى البرمكي، ويُعدّ أحد قصور بغداد المشهورة في العصر العباسيّ، وقد أنشأه في منطقة أصبحت تُعرف في وقتنا الحالي باسم شارع المُستنصر في بغداد، وقد أنفق عليه الكثير من الأموال، وجعل حول القصر بستانًا غرس فيه أنواعًا مختلفةً من الشجر.
سبب تشييد القصر الجعفري
كان جعفر البرمكي شديد الشغف بالغناء، أمّا أباه يحيى فكان رجلًا جليلًا ذا رأيٍ وعقل، حيث خاف على ابنه عاقبة هذا الأمر ونهاه عنه، إلّا أنّ جعفر لم ينتهِ، ولقد أوصاه أباه حينها بأنْ يستتر لكن لم يفلح في ذلك، لذا أمر ابنه أنْ يتّخذ لنفسه قصرًا بالجانب الشرقي من بغداد كونه قليل العمارة، ليكون بعيدًا عن عيون الناس.
أمر جعفر حينها ببناء قصره بالجانب الشرقيّ باذلًا المال الكثير، وجاء جماعة من أصحابه فيهم صَديق حكيم اسمه مؤنس بن عمران، حيث استحسنوا القصر، ونصحه ابن عمران قائلاً: “أرى إذا صرت إلى أمير المؤمنين وسألك عن تأخُّرك، فقل إنّك كنت في القصر الذي بنيته لمولانا المأمون، واجعل أنك بنيته له”.
فأعجب جعفر برأي صديقه وذهب في اليوم التالي إلى الرشيد في قصر الخلد، والذي علم بأمر القصر من الجواسيس، وعند سؤاله جعفر البرمكي عن سبب تأخره قال: “كنت في القصر الذي بنيتُه لمولاي المأمون شرقيّ دجلة لمّا بلغني من طيب هوائه ليصح مزاجه ويقوى ذهنه ويصفو”، سُرّ الرشيد لما سمع وأمر بإتمام فرش القصر من خزائن الدولة وأنْ يسكنه جعفر البرمكي.
انتقل القصر إلى المأمون ولي عهد المسلمين سنة 187ﻫ (803 م) بعد الأمين، وصار القصر أحبَّ الأمكنة إليه، حيث قام بتوسيعه وفتح بابًا شرقيًا له من جهة البرِّية، مُضيفًا قطعة من الأرض لركوب الخيل، والسباق، واللعب بالكرة والصولجان، كما بنى فيه حظائر لوحوش الغابة في جوانب القصر من السباع وغيرها، وأجرى فيه نهرًا ساقه من نهر المُعلَّى، وبنى منازل لخاصته وأصحابه قريباً منه.
ومن الجدير بالذكر أنّ تلك المنطقة سميت بالمأمونية ونشأ بعد ذلك طريق اشتُهر بطريق المأمونية في بغداد.
تاريخ القصر الجعفري
قدّم جعفر قصره الفخم جدًا كهدية للخليفة المأمون الذي حكم بين (813–833)م، حيث أصبح القصر للخليفة المأمون وعُرف حينها باسم قصر المأمون على الرغم من استخدامه من قبل جعفر حتى السقوط المفاجئ للبرامكيين عام 803، وبعد عام 803م انتقل المأمون إلى القصر وأصبح مسكنه المُفضّل، وظلّ القصر شاغرًا بعد أنْ تركه المأمون وطيلة فترة الحرب العباسيّة الأهلية بين المأمون وأخيه الأمين غير الشقيق.
عندما عاد المأمون إلى بغداد عام 819م، أهدى الخليفة القصر إلى وزيره وصديقه الموثوق الحسن بن سهل، وذلك كتعويض عن البذخ الذي أنفقه الوزير خلال احتفالات زواج المأمون من ابنة الحسن المسماة بوران، وقام الحسن بإعادة بناء القصر وتوسيعه، وأعطاه لابنته بوران بعد بضع سنوات، والتي عاشت أكثر من زوجها المأمون، وبقيت هناك حتى وفاتها عام 884، وعرف القصر حينها باسم “قصر الحسن” أو “قصر الحسني”، وبعد وفاة المأمون عام 833 يُقال أن المعتصم شقيقه وخليفته عاش في القصر، قبل أن يبني لنفسه قصرًا جديدًا في الجوار.
في عام 836 تم تأسيس مدينة جديدة في الشمال وهي سامراء، حيث انتقلت إلى هناك محكمة الخلافة وعاصمة الإمبراطورية العباسية، واستلم الخليفة المُعتمد الحكم بعد المعتصم من عام (870-892)، وتجري الأقاويل أنّ المعتمد حين دخل المدينة طلب من بوران استملاك قصر الحسني، وأن بوران طلبت بعض الوقت لترتيب شؤونها، واستغلت هذا الوقت لإعادة ترتيب القصر وتأثيثه وجعله مناسبًا للخليفة، إلّا أنّه تم دحض هذه الرواية حيث من المعروف أن بوران كانت قد ماتت حينها منذ سنوات.
في عهد المعتضد أصبح القصر المقر الرسمي للخلافة، حيث أضاف الخليفة مبانٍ جديدة منها سجن، ووسّع أراضيه وأحاط جدرانه بأسوار.
أما في عهد الخليفة المكافئ والذي امتد في الفترة بين (902–908)، بنى خلالها قصر الفردوس، وقصر الثريا إلى الشرق وقصر تاج في اتجاه مجرى النهر، حيث تشكّل بذلك مجمع قصور مُترامي الأطراف سُميّ “دار الخلافة”، وضمّ العديد من المساكن والحدائق، وظل المقر الرئيسي لما تبقى من الخلافة العباسية، علمًا أنّ الخليفة المكافئ أقام عام 901 مسجد الجمعة وهو مسجد القصر، بدلًا من سجون القصر التي بناها والده حيث قام بتدميرها.
مراجعة وتقديم ناطق ابراهيم العبيدي