هل يمكن أن يمل الإنسان من الأمان ؟
ابن آدم ما أكثر مَلَلَك !
الطالب عجول ، والمطلوب منه ملول ، والطّلب مملول !
إن جاء الصيف طلبت الشتاء !
وإن جاء الشتاء طلبت الصيف !
ولو دام الظلام لتضجّروا ، ولو دامت الشمس لملّوها
والشمسُ لو وقفتْ في الفُلكِ دائمة = لَمَلَّهَا النَّاسُ مِنْ عُجْمٍ وَمِنَ عَـرَبِ
إذا قحط الناس طلبوا سُقيا المطر ، وإن دام نزول المطر طلبوا الاستصحاء !
قال أنس بن مالك دخلَ رجُل المسجد يومَ جُمعةٍ من بابٍ كان نحوَ بابِ دارِ القضاءِ - ورسولُ اللهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم قائمٌ يخطبُ - فاستقبلَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم قائماً ، ثم قال : يا رسولَ اللهِ ! هلَكَتِ الأموالُ ، وانقطَعَتِ السبلُ ، فادعُ اللهُ يُغيثُنا فرفعَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم يدَيهِ ، ثم قال : اللّهمّ أغثْنا . اللّهمّ أغثْنا اللّهمّ أغثنا . قال أَنسٌ : ولا واللهِ ما نرَى في السماءِ من سحابٍ ولا قَزَعـةً ، وما بَينَنا وبينَ سَلعٍ من بيتِ ولا دارٍ . قال : فطلَعَتْ من ورائهِ سحابةٌ مثلُ التّرسِ ، فلمّا توسّطَتِ السماءِ انتَشَرتْ ثم أمطرَتْ ، فلا واللهِ ما رأينا الشمسَ سبتاً ، ثمّ دَخلَ رجلٌ من ذلكَ البابِ في الجُمعةِ المُقبلة – ورسولُ اللهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم قائمٌ يَخطب – فاستقبلَهُ قائماً فقال : يا رسولَ اللهِ هَلكَتِ الأموالُ ، وانقطَعتِ السبُلُ ، فادعُ اللهَ يُمسِكها عنا ! قال فرفعَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم يديهِ ثم قال : اللّهمّ حَوالَينا ولا علينا . اللّهمّ عَلَى الآكامِ والظرابِ وبُطونِ الأوديةِ ومَنابتِ الشجر . قال : فأَقْلَعَتْ ، وَخرجْنا نمشي في الشمسِ . رواه البخاري ومسلم .
فما أسرع ملل الناس !
ولذا قيل :
عليك بإغباب الزيارة إنها تكون = إذا دامت إلى الهجر مسلكا
فإني رأيت الغيث يُسأم دائما = ويُسأل بالأيدي إذا هو أمسكا
حتى في دنيا المحبين يملّون الوصل دائما !
لو يكون الحب وصلاً كلّه = لم تكن غايته إلا الملل
أو يكون الحب هجراً كلّه = لم تكن غايته إلا الأجل
إنما الوصل كمثل الماء لا = يستطاب الماء إلا بالعلل
هكذا هو ابن آدم ملول
إن أقام ملّ الإقامة
وإن سافر سئم السّفر
حتى قال القائل :
مللت حمص وملتني فلو نطقت = كما نطقت تلاحينا على صدر
وسولت لي نفسي أن أفارقها = والماء في المزن أصفى منه في الغدر
هيهات بل ربما جنى الرحيل غنى = بالمال أجني به رغدا من العمر
كم ساهر يستطيل الليل من دنف = لم يدر أن الردى آت مع السحر
وقال الآخر :
يا أخلاّءِ قد مَلِلْتُ مكاني = وتذكّرتُ ما مضى من زماني
ومن الطريف أن يملّ الإنسان من نفسه أو من بعض جسده !
قالت أم حكيم الخارجية - وكانت تحمل على الناس وترتجز - :
أحمِلُ رأساً قد سئمتُ حَمْلَهْ = وقد مَلِلْت دَهْنَه وغسلَهْ !
وأعجب ما رأيت أن يملّ الناس من نِعمة الأمن !
أوَ تُـمـلّ تلك النّعمة ؟
( لقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ {15} فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ {16} ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ {17} وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ {18}فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ )
كانوا في نعيم كريم وخضرة دائمة
وأمن ورخاء وقرى متواصلة
فملّوا ما هم فيه !
فسألوا ربهم تبديل هذه النّعمة !
قال قتادة في قوله : ( قُرًى ظَاهِرَةً ) قال : متواصلة ( آمِنِينَ ) لا يخافون جوعا ولا ظمأ إنما يغدون فيَقِيلُون في قرية ويروحون فيبيتون في قرية ، حتى لقد ذُكر لنا أن المرأة كانت تضع مكتلها على رأسها فيمتلئ قبل أن ترجع إلى أهلها من غير أن تحترف بيدها شيئا ، وكان الرجل يسافر لا يحمل معه زادا ولا سقاء من ماء مما بُسط للقوم . قال فبطر القوم نعمة الله ( فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا ) فمزقوا كل ممزق وجُعلوا أحاديث .
وتذكرتُ حين قراءة الآيات في خبر قوم سبأ ملل بني إسرائيل وقد ملّوا المقام بمصر وما أزل الله عليهم من المنّ والسلوى !
وعُدت بالذاكرة إلى حوار مع سائق سيارة أجرة ، حيث ركبت معه من المطار إلى الدّار !
فأردت قطع الصمت بشيء من الحوار الذي يكون مدخلا للحديث معه
سألته من أي بلاد الله أنت ؟
قال – ومع القول زفرة - : من الصومال
فسألته عن وضع الصومال الآن
فأجاب بزفرة أخرى : لا يسرّ الصديق
سألته : كيف ؟
قال : كان الناس يتضجّرون من الرئيس السابق زياد بري ، والآن الناس هناك يتمنّون قميص زياد بري !
قلت : ولماذا ؟ وهو الذي كان بلغ السوء في الدّين والدنيا !
قال : كنا نأمن على أنفسنا أيام الرئيس السابق ، وكنا .. وكنا ..
والآن توجد مستفيات في الصومال دون أبوب وشبابيك !
فمن يجرؤ على هذا السّلب والنّهب أيام الرئيس السابق ؟
فقلت : سبحان الله ! لم يكن من المتوقّع أن يكون هناك سوء أسوأ من الرئيس السابق !
ولكن انفلات الأمن أثبت عكس ذلك
ما ثاروا على الرئيس السابق إلا لما ملّوا ما هم فيه من سوء
والآن يترحّمون على أيام الرئيس السابق ! ويتغنّون بها !
كم شرّدت الحرب من أهل ذلك البلد المسلم ؟
كم ضاق الناس ذرعا بالخوف وانعدام الأمن ؟
وكم ... وكم .. ؟؟؟
وما هذه إلا نتيجة للعاطفة التي هبّت فأصبحت عاصفة – كما كان شيخنا رحمه الله يقول - !
وما يلبث ابن آدم حتى يملّ ما هو فيه من الخوف والحذر !
أنا فتي حجرة تجلّ عن الوصف = ويعمى البصير فيها نهارا
هي في الصبح كالظلام وفي الليل= يولي الأنام عنها فرارا
أنا منها كأنني جوف بئر = أتقي عقربا وأحذر فارا
وإذا ما الرياح هبت رخاء = خلت حيطانها تميد انهيارا
رب عجل خرابها وأرحني = من حذاري فقد مللت الحذارا
وتذكرت – الآن – بعض الشباب سافروا إلى بعض دول أفريقيا فملُّوا الخضرة !
وكانوا بالأمس قد ملّوا الصحراء التي يزول سرابها ولا يَرد الطّرف فيها مَعْلَم
هكذا هو ابن آدم يملّ حتى من رغد العيش
ويملّ من الأمن حتى يفقده فيعرف قدره !
ويملّ من الخوف بعد أن يخفق قلبه خوفا في اللحظة مرّات ومرّات
إننا بحاجة إلى شُكر نعمة الأمن
ولذا فإن الله سبحانه وتعالى لما ذكر خبر القوم وما حلّ بهم ختم الآية بقوله :
( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ )
والشّكور كثير الشُّكر ..
فما أحوجنا إلى شُكر نعمة الأمن والرخاء والإيمان
من محاضرات الشيخ عبد الرحمن السحيمي