آخر الذي استقرّت عليه، بعد أن لم يكن لها ولد، وفارقها البعل وهي في الأربعين، المال. شيء تنشغل به ويملأ اطنابه من وجوه وتلمّس ودواعٍ وتفرغ، بين منازل القوم القليلة. لم تكن تحب المال، وهو عملة القرية وزمام معيشتها. ينشغل القوم به طوال العام سعيا للرزق والاحتيال في الدروب والبراري، والنساء يأخذن بحظهن من احتياجه، كلما تيسّر بين الأيدي المنشغلة بالكراء الغزل والطهو.
وكانت تنفق سائر وقتها الآخر، على ارتفاع مجلسها، في التشبع والاصغاء. أخبار العائدين من غزوهم وصيدهم، وتقلبات ربات الحجال، وحكايات الجواري أو الصبيان. والمال كلّ رحلة تصرّه في صندوقها لا تدري ماذا تفعل به. عزفت عن الثياب والطعام والزينة. كان ثمة شيء، عبر حواسها كلها، يتراكم ويروب ويزبد ويصفو نحو.. إنه كقطن يتشبع ويفيض فيزيد أكثر ليتشبع قطنا يناهز السماء ويرغب بالتشبع والمزيد.
السيّار من المعتاد تألفه وتشيح عنه. ليس إلا دقيق اليوم الرتيب حتى المغرب، وفي صبيحة اليوم التالي، في المواقد، يخبز ثانية. كانت تتوق لما يحسن الأخذ ولا يرد النفس إلا مجترحة بفطرة بسيطة هي أيضاً، كسرّ الماء.
وسمعت أن الناموس، الذي لو توصيف له، يحلّ على الأماكن ويختار بشره. يسقي الأرواح بالحقيق، ويصنع مغازٍ من دوالٍ توالٍ ووقائع. من المحظور على نساء زمنها أن يعرفن أكثر، فقط ما يمسح خاطرهن براحته، ويبقي منها الآدمي سويا لسائر الأوقات، التي تتكرر كالسوق.
فلما أخذ عبدها يحدّثها، مدهوشاً، عن المَفَارِقْ، في توثّب عينيه أسفل جبهته انبعاث واستغراق؛ تنبّه في قريرها الذي يميّز ويفرّق، وامرت العبد بالانصراف. انهال خيالٌ في الوجل له سمتٌ وهيئة، وإنها لتحسّ -في صدرها- ما لا يرى، لكنه يدرك، كلّه وجلّه، كخطف القطا والقبض بالأصابع.
انبعث طلب الإلف لا لأنه رجل، بل لأنه تأمَل فيه التطابق والارتفاع. ناهضٌ بين مسيّرين -خلفَ عيرٍ- يشغلهم البذل الهين لاكتفاء اليوم، ما يجعلهم نوايا تمر متجاورة.
دبّت فيها زينة الأنفاس التي تنبر بكبرياء، وباحت نسمتها لصخرها -سرّا- بالاحتياج. هبّت رياح إقرار وطلب صبا يخفي بالرمل. تعالت سنبلتها في حقل النساء، على تخيّل اللواتي تعرفهن وتسمع بهن في النوادر المتنقلّة في الباديات. بين العرب هي سيّدة، لا أقل، ولن تكون.
وإنها -دون تردد- تسعى. تُقِبل على من لا يترك، وقد اختبرت الزبد في الجريان.
الكلام يعاود سمعها، مساءً، أسفل صوف القباء فيستقر هنا: الروح كهف مدخله تصور، فيتغلغل لمعان وتفرّس وحدس، فاختلاج، ثم تعيد جمع نفسها، وهي ترد الخمار عن وجهها.
النظر يتدعم أكثر بحواس المجرّب ذي التخيل. التوق كفٌّ أليف -لغريبٍ- يستقر على التنهد شديد الائتلاف. الزهو انحناءة للجيد الرقيق، تطنب على انوثة في جفنين كتومين، ومن قامة تنبعث وتومئ بنفسها.. بالبخيل والقليل. في نظرة تحوز للأدنى ولا ترتد إلا لتسحر، ما أمتعها!
فقط القليل، لأن الكثير مخزّن حين الانكفاء في خلوة المكان، وتتحلل الضفائر في حلّها.
السكن اشتياق للرجل، الذي استطعمت حظها منه وكان فاترا.
من المدهش، تناجي نفسها، أنها لم تفقد لبّها وبقيت ثابتة الروع. ربما، لأن الصخر -في طللها- يجاور الرمل والحصى فلا يختلطان.
ستسعى بكتمان ودهاء لا يفطن إليهما الرجال إلا متأخراً، فتجعل الغاية سبيلاً -امرأة تفتتح "سبيلاً"!- واحتياجُها الظامئ طلباً للدنو منها! وبعد أن تحقق منالها، سيأتي على مهل وتأنٍ دور الذراري من الأبناء والبنات.
انعقد قدرها الخفي الذي سيتضح للسامع المتأخر بعد قرون شيئا فشيئا، فضم اليه محطات وعيونا من أحداث جِلال. لقد طواها الناموس -له صبيحته وليله واتساعه ما لا يطاق- فكان يرقب الاقتراب فيها، كائنا ينتظر الإذن.
ومع أنها لم تره، فقد صب بالمشيئة في روحها معرفة، لم تعرفها غيرها.
وقد سوندت من قبل برجل، نبيّ، فخيّم على مصيرها الرخاء، وليكن أنها فقدت مالها كلّها والتجارات والعبيد وحظ جمالها ورواء الوجه فاحمر الخدان على نحال،
وكثيرا جداً ما مسها الجوع