روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه
أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَتَى الْمَقْبُرَةَ،
فَقَالَ:
«السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ،
وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ،
وَدِدْتُ أَنَّا قَدْ رَأَيْنَا إِخْوَانَنَا»
قَالُوا: أَوَلَسْنَا إِخْوَانَكَ؟ يَا رَسُولَ اللهِ
قَالَ: «أَنْتُمْ أَصْحَابِي وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ»
فَقَالُوا: كَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ لَمْ يَأْتِ بَعْدُ مِنْ أُمَّتِكَ؟ يَا رَسُولَ اللهِ
فَقَالَ: «أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ بَيْنَ ظَهْرَيْ
خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ أَلَا يَعْرِفُ خَيْلَهُ؟»
قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ
قَالَ: " فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنَ الْوُضُوءِ، وَأَنَا
فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ أَلَا لَيُذَادَنَّ رِجَالٌ عَنْ
حَوْضِي كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ أُنَادِيهِمْ أَلَا هَلُمَّ
فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ فَأَقُولُ سُحْقًا سُحْقًا"
([1])
معاني المفردات:
1- (دُهْم): الدهمة السواد. يقال فرس
أدهم وبعير أدهم وناقة دهماء
2- (بُهْم): تأكيد لدهم. والفرس البهيم هو
الذي لا يخلط لونه شيء سوى لونه
3- (لَيُذَادَنَّ): الذود هو الطرد
4- (سُحْقًا): أي: بعدا
شرح الحديث:
قوله:
(السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ)؛
قال النووي:
((أَمَّا الْمَقْبُرَةُ فَبِضَمِّ الْبَاءِ وَفَتْحِهَا وَكَسْرِهَا ثَلَاثُ لُغَاتٍ
الْكَسْرُ قَلِيلٌ، وَأَمَّا دَارَ قَوْمٍ فَهُوَ بِنَصْبِ دَارَ،
قَالَ صَاحِبُ الْمَطَالِعِ: هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الِاخْتِصَاصِ
أَوِ النِّدَاءِ الْمُضَافِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ
قَالَ: وَيَصِحُّ الْخَفْضُ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الْكَافِ
والميم فِي عَلَيْكُمْ وَالْمُرَادُ بِالدَّارِ عَلَى هَذَيْنِ
الْوَجْهَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ الْجَمَاعَةُ أَوْ أَهْلُ
الدَّارِ وَعَلَى الْأَوَّلِ مِثْلُهُ أَوِ الْمَنْزِلُ
([2]).
قوله: (وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ)
؛ قال النووي:
((فَأَتَى بِالِاسْتِثْنَاءِ مَعَ أَنَّ الْمَوْتَ لَا شَكَّ فِيهِ؛
وَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ أَقْوَالٌ: أَظْهَرُهَا أَنَّهُ لَيْسَ لِلشَّكِّ
وَلَكِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ لِلتَّبَرُّكِ
وَامْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي قوله
(ولا تقولن لشئ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ الله)
، وَالثَّانِي حَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ: أَنَّهُ عَادَةٌ لِلْمُتَكَلِّمِ يُحَسِّنُ بِهِ كَلَامَهُ،
وَالثَّالِثُ: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ عَائِدٌ إِلَى اللُّحُوقِ فِي هَذَا الْمَكَانِ،
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: إذ شَاءَ اللَّهُ))
([3]).
قوله: (وَدِدْتُ أَنَّا قَدْ رَأَيْنَا إِخْوَانَنَا،
قَالُوا: أَوَلَسْنَا إِخْوَانَكَ؟ يَا رَسُولَ اللهِ
قَالَ: أَنْتُمْ أَصْحَابِي وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ)؛
قال النووي: ((الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَدِدْتُ أَنَّا قَدْ رَأَيْنَا إِخْوَانَنَا أَيْ رَأَيْنَاهُمْ
فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ:
وَقِيلَ: الْمُرَادُ تَمَّنِي لِقَائِهِمْ بَعْدَ الْمَوْتِ،
قَالَ الْإِمَامُ الْبَاجِيُّ: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
بَلْ أَنْتُمْ أَصْحَابِي؛ لَيْسَ نَفْيًا لِإخُوَتِّهِمْ؛ وَلَكِنْ
ذَكَرَ مَرْتَبَتَهُمُ الزَّائِدَةَ بِالصُّحْبَةِ فَهَؤُلَاءِ إِخْوَةٌ
صَحَابَةٌ وَالَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا إِخْوَةً لَيْسُوا بِصَحَابَةٍ،كَمَا
قَالَ اللَّهُ تعالى:
(إنما المؤمنون إخوة)،
قال القاضي عياض: ذهب أبو عمرو بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ
فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي فَضْلِ
مَنْ يَأْتِي آخِرَ الزَّمَانِ إِلَى أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِيمَنْ يَأْتِي
بَعْدَ الصَّحَابَةِ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِمَّنْ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الصَّحَابَةِ
وَأَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرُكُمْ قَرْنِي
عَلَى الْخُصُوصِ مَعْنَاهُ خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي أَيْ
السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَمَنْ
سَلَكَ مَسْلَكَهُمْ، فَهَؤُلَاءِ أَفْضَلُ الْأُمَّةِ وَهُمُ
الْمُرَادُونَ بِالْحَدِيثِ، وَأَمَّا مَنْ خَلَّطَ فِي زَمَنِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ رَآهُ وَصَحِبَهُ، أَوْ لَمْ يَكُنْ
لَهُ سَابِقَةٌ وَلَا أَثَرٌ فِي الدِّينِ، فَقَدْ يَكُونُ فِي
الْقُرُونِ الَّتِي تَأْتِي بَعْدَ الْقَرْنِ الْأَوَّلِ مَنْ يَفْضُلُهُمْ
عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآثَارُ، قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ
ذَهَبَ إِلَى هَذَا أَيْضًا غَيْرُهُ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى الْمَعَانِي،
قَالَ: وَذَهَبَ مُعْظَمُ الْعُلَمَاءِ إِلَى خِلَافِ هَذَا
وَأَنَّ مَنْ صَحِبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَآهُ مَرَّةً
مِنْ عُمْرِهِ وَحَصَلَتْ لَهُ مَزِيَّةُ الصحبة أفضل
من كل من يأتي بعد، فَإِنَّ فَضِيلَةَ الصُّحْبَةِ
لَا يَعْدِلُهَا عَمَلٌ، قَالُوا: وَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ
مَنْ يَشَاءُ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ
أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ))،
هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ))
([4]).
قوله: (كَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ لَمْ يَأْتِ بَعْدُ مِنْ أُمَّتِكَ؟ يَا رَسُولَ اللهِ
فَقَالَ: «أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ بَيْنَ
ظَهْرَيْ خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ أَلَا يَعْرِفُ خَيْلَهُ؟»
قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: " فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ
غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنَ الْوُضُوءِ)؛
وذلك أثر من آثار هذه العبادة العظيمة،
وهي الضوء الذي كرروه على هذه الأعضاء الشريفة
ابتغاء مرضاة الله، وطلبا لثوابه، فكان جزاؤهم
هذه المحمدة العظيمة الخاصة، من النور
الذي يكون في وجوههم وأيديهم.
[1])) صحيح: أخرجه مسلم (249).
[2])) ((شرح مسلم))، للنووي 3/138.
[3])) السابق.
[4])) السابق 3/139.
رد مع اقتباس