على أبواب جهنم ونعيم الجنة : حرف ( الواو) يصنع إعجازا
بقلم وديعة عمراني
باحثة إسلامية
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين
أما بعد ،
إنها معجزة القرآن الكريم الذي لا تنتهي عجائبه،ولا تنقض غرائبه ، ولا يشبع منه العلماء ولا يمل منه الفقهاء ، يقول الحق تعالى (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً ) [ الإسراء : 107-19] .
كنوزه دفينة وأسراره عظيمة، فهو النور الشافي، والحصن الهادي، يخاطب به الله تعالى الخلق كافة في مشارقهم ومغاربهم، وعلى اختلاف ألسنتهم وصفاتهم ولهجاتهم وأزمانهم وأصقاعهم.
فهو الذكر الحكيم ، والكتاب المبين ، الذي أتى من اللازمان واللامكان ، ليحكم كل زمان وكل مكان ، فهو الكامل الدائم الذي جاء ليحكم كل مؤقت ومتغير .
ومن هذا المنطلق كان لمجال الإعجاز العلمي أهمية قصوى في إظهار بعض جوانب هته الديمومة الكاملة والمعجزة الخالدة ، والكشف عن بعض أسرارها وكنوزها كشفاً دائماً مستديماً ، والناظر إلى آيات القرآن وأسرارها العظيمة يرى في ذلك العجب العجاب ، وكأنها على موعد دائم معنا ، فهي تنطق في كل مرة لتكشف عن بعض أسرارها بما يوافق زماننا ومكاننا ، وتأتي في زمن آخر لتكشف عن أسرار أخرى ـ لها ـ بما يوافق مواصفات ذلك الزمان وذلك المكان أيضاً ، وهكذا في كل مرة في إعجاز عظيم دائم ومستديم .
وحديثنا اليوم كما يتضح من عنوانه ( على أبواب جهنم ونعيم الجنة ) يتطرق إلى إحدى هته الحقائق لآية عظيمة من آيات (سورة الزمر )، تصف لنا في إعجاز بلاغي وبيان علمي وتحليل نفسي دقيق ومبهر إحدى تلك المشاهد من مشاهد يوم القيامة ونيل الجزاء ،حين تتوفى كل نفس عملها ، فيساق الكافر إلى أبواب جهنم ويساق والمؤمن إلى نعيم الجنة ، يقول الحق تعالى ( وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) [ الزمر : 70ـ75] .
سنحاول من خلال سطورنا القادمة إظهار بعض ما تحمله الآية الكريمة من أوجه الإعجاز ،في وصف دقيق لتلك المشاهد واختلافاتها ، وستكون بدايتنا مع أول مشهد :
أول مشهد : أول إعجاز ( حرف " الواو " يصنع إعجازا ) 1-
أصحاب جهنم: (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ ) .
أصحاب الجنة: (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ) .
نلاحظ أن الفرق بين المشهدين تَمثّل في حضور أو غياب حرف (الواو ) عند الآية الكريمة التي تصف مشهد أصحاب جهنم (حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) و الأخرى التي تصف مشهد أصحاب الجنة ( حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) ، حيث صنع تواجد حرف الواو مع لفظ (فُتِحَتْ) من عدمه في كلا المشهدين إعجازا عظيماً مبهراً ، يصف لنا في دقة متناهية الفرق بين المشهدين بما يوافق حال أصحاب الجنة مقارنة مع حال أصحاب جهنم ، ولنسلط بعض الضوء على هذا الفرق وهته الحقائق :
- فأصحاب جهنم : (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ ) ، جاء في تفسير الآية الكريمة ( يخبر تعالى عن حال الأشقياء الكفار كيف يساقون إلى النار وإنما يساقون سوقا عنيفا بزجر وتهديد ووعيد كما قال عز وجل (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً) أي يدفعون إليها دفعا وهذا وهم عطاش ظماء كما قال جل وعلا في الآية الأخرى "يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَـنِ وَفْداً * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً" ) .
ونلاحظ في هته الآية الكريمة أن الجملة الرابطة بين وصول أصحاب جهنم إلى أبواب جهنم (حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا ) وفتح الأبواب ( فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) جاء دون ذكر حرف ( الواو) ، ولعدم ذكر (الواو) هنا إعجاز بياني وعلمي عظيم يصف لنا بدقة متناهية إعجاز هذا المشهد ، بحيث إذا تأملنا سنرى انه من الطبيعي جدا أن لا يحضر حرف ( الواو ) هنا ، فجهنم لكونها تمثل كارثة من الكوارث العظمى وفزع عظيم وصاعقة ستنزل على أهل الكفر والشرك جزاء كفرهم واستكبارهم على الحق ، لا تحتاج أن تُمهِل الكافر!! بل دوماً تأخذ الكوارث والصواعق الإنسان على حين غرة ، ومن أجل ذلك وُصِفت الكارثة ( بالفاجعة) ، فهي تفجع أهلها على غير موعد ولا انتظار، فما بالكم إذا كان الأمر يتعلق بعذاب ( بجهنم) ونار جهنم ، فهي الصاعقة العظمى والفزع الأكبر لأصحاب الكفر الذين سيخلدون فيها أبد الآبدين ، لذلك فجهنم لم تُمهِلهم وقوفاً عند أبوابها ، فما كاد يصل الكافر إلى مشارف جهنم حتى فَتحَت تلك الأخيرة أبوابها في تعطش لإحلال العقاب بأهل الكفر والعصيان ، وفي ذلك قال أهل التفسير : (وقوله تبارك وتعالى " حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا " أي بمجرد وصولهم إليها فتحت لهم أبوابها سريعاً لتعجل لهم العقوبة ، يقول الحق تعالى (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ
لِلْغَاوِينَ ) .
فعدم ذكر حرف ( الواو ) يهدف إلى خلق مشهد فظيع مفاجئ لأهل الكفر والعصيان ، فلننظر معاً ونحاول أن نتصور ذلك المشهد ،فأصحاب جهنم مكبلون بالسلاسل يساقون إلى أبواب جهنم سوقا عنيفا بزجر وتهديد ووعيد ،حالتهم النفسية في رعب عظيم وفزع أعظم ، وهم يحاولون الرجوع والفكاك ، ولكن هيهات هيهات أين المفر!! ..وفجأة دون مقدمات تُفتَح أبواب جهنم ، فتحل الصاعقة و الصدمة المفاجأة بهم ، وهته كلها حالات توافق وفاقاً تاماً نوع الجزاء ونوع العقوبة المستحقة للمشركين .تتجلى في حضور الحالات التالية :
الفزع الرعب .
حضور عنصر المباغتة والمفاجأة .
الكارثة .
الصدمة .
ولذلك جاءت بقية الآية الكريمة تصف سؤال خزنة جهنم للكفار في اتفاق لتصعيد عنصر الندم والفزع وذلك حين( يقول لهم خزنتها من الزبانية الذين هم غلاظ الأخلاق شداد القوى على وجه التقريع والتوبيخ والتنكيل " ألم يأتكم رسل منكم " أي من جنسكم تتمكنون من مخاطبتهم والأخذ عنهم " يتلون عليكم آيات ربكم " أي يقيمون عليكم الحجج والبراهين على صحة ما دعوكم إليه " وينذرونكم لقاء يومكم هذا " أي ويحذرونكم من شر هذا اليوم ؟ فيقول الكفار لهم " بلى " أي قد جاءونا وأنذروا وأقاموا علينا الحجج والبراهين " ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين " أي ولكن كذبناهم وخالفناهم لما سبق لنا من الشقوة التي كنا نستحقها حيث عدلنا عن الحق إلى الباطل كما قال عز وجل مخبرا عنهم في الآية الأخرى " كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير " أي رجعوا على أنفسهم بالملامة والندامة " فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير " أي بعدا لهم وخسارا ) ( ابن كثير ) .
- أما في المشهد الآخر لأصحاب الجنة: فنلاحظ أن الجملة الرابطة بين وصول أصحاب الجنة إلى الجنة (حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا) وفتح الأبواب (وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) جاء مع ذكر حرف (الواو) ، فما المعنى وما المقصود من هذا الفرق بحضور حرف ( الواو ) هنا ؟! طبعا هناك فرق ، وهناك فرق عظيم وعظيم جدا ، فهذا عرس .. هذا مشهد من مشاهد الفوز العظيم ، هذا مشهد يصف استعداد أهل الجنة دخولهم إلى نعيمها الخالد ، فهل رأيتم مرة عرسا دون استعدادات !! فما بالك بعرس الجنة ، القائم عليه ملائكة الرحمن ، برعاية من الحنان المنان الله مالك الملك رب السموات والأرض ونعيم الجنان .
و لقد جاء في تفسير الآية الكريمة (وسيق الذين اتقوا ربهم" بلطف "إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابه ، وهو إخبار عن حال وهذا إخبار عن حال السعداء المؤمنين حين يساقون على النجائب وفدا إلى الجنة " زمرا " أي جماعة بعد جماعة ) .
فالجنة تتهيأ لتزف إليها أحباب الرحمن ،أهل التقوى والإيمان ، وهم واقفون مبتهجون ، يتطلعون بشوق إلى ذلك النعيم ، ونورهم يسعى بين أيديهم ، انه بحق مشهد عظيم ، لا يستطيع أن يتصوره عقل، أو أن يحيط به قلب ، وبينما القوم في غبطتهم العظيمة تلك وسعادتهم الفائقة ،وإذا بأبواب الجنة تفتح، فتفوح نسمتها تغمر القلوب المؤمنة ، فيهبوا ليدخلوها خالدين فيها بأمان وسلام، انه مشهد عظيم من مشاهد الفوز بالنعيم الخالد ،ولقد جاء في الحديث الشريف ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" أنا أول شفيع في الجنة " وفي لفظ لمسلم " وأنا أول من يقرع باب الجنة " . وقال الإمام أحمد حدثنا هاشم حدثنا سليمان عن ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح فيقول الخازن من أنت ؟ فأقول محمد - قال - فيقول بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك ) ورواه مسلم عن عمرو بن محمد الناقد وزهير بن حرب كلاهما عن أبي النضر هاشم بن القاسم عن سليمان وهو ابن المغيرة القيسي عن ثابت عن أنس رضي الله عنه به) .
وكخلاصة :
من هذا الفرق أدركنا كيف أن حضور أو غياب حرف من حروف القرآن الكريم صنع إعجازا عظيما في هته الآية الكريمة ، ولعلنا إذا ألقينا نظرة موجزة إلى مقاصد هذا الحرف في علم الحرف القرآني سنلاحظ أن حرف ( الواو ) يمثل فاعلية ربط بين معاني ودلالات الجمل والعبارات المستهدفة في الحديث أو في (الجملة) .
1- فمثلا حين نقول ( استأذن ودخلت ) :(فالواو) شكلت هنا رابط تبادلي تظهر فيه علامات الرضا المتبادل بين فعل (الاستئذان) أي الاستئناس قبل الدخول ،وفعل ( الدخول ) ، فالواو إذن حققت معنى الترابط التبادلي ( الراضي والمرضي ) بين الفعلين .
2- أما إذا قلنا مثلا (فور دخولي رن الهاتف ) :هنا انعدم ذكر حرف الواو في الرابط التفاعلي بين اللفظين ، فلم يوجد إذن ذاك الترابط التبادلي بين فعل ( الدخول ) و( رنين الهاتف ) ، أي أن رنين الهاتف فاجأني في ذلك الوقت دون استعداد مني مسبق لتقبل ذلك ( الفعل ) ، أي رغما عني ، ورنينه لم يأتي بشكل مستأنس ، أما إذا قلنا مثلا ( حين دخولي خلدت لبعض الراحة ، ورن الهاتف ).. هنا نلاحظ حضور الشعور بالاستئناس والرضا من ذلك الرنين .
وعلى النفس المنوال( تشبيهاً لا تطابقاً ) كان حضور حرف ( الواو) أو انعدامه يحمل نفس معنى ذلك الرابط ( الراضي المرضي من عدمه ) في إعجاز مشهد أهل الجنة وأهل الجحيم :
1- حيث ظهر حرف ( الواو) في مشهد أصحاب الجنة وكانت كلمة ( وفتحت )، أي هناك رابط تبادلي بين أصحاب النعيم وذلك النعيم ، فالجنة احتوت ( فُتِحَت ) للمؤمنين برابط تبادلي ( راضية مرضية ) ادخلوها بسلام آمنين .
2- أما في حالة أصحاب النار فلا يوجد رابط تبادلي مثل أهل الجنة بل (فائقية تبادلية) أي غصبا على أنوفهم يدخلون جهنم والتبادلية هي مع أفعالهم التي فعلوها ، فاختف بذلك القصد باختفاء حرف الواو.
2- المشهد الثاني : (على أبواب جهنم ) أو ( نعيم الجنة )
يأتي المشهد الثاني ليُظهِر لنا إعجاز آخر في وصف حالة أصحاب الجنة وأصحاب النار واستعدادهم للدخول إلى جنات النعيم أو عذاب الجحيم ، وكما في المشهد الأول فان هذا المشهد الثاني جاء ليوافق توافقاً مبهراً الفرق بين المشهدين :
- أصحاب جهنم : (قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) ،جاء في تفسيره (تقول خزنة جهنم للذين كفروا حينئذ "ادخلوا أبواب جهنم "السبعة على قدر منازلكم فيها " خالدين
فيها " ) .
نلاحظ في هذا المشهد أن الخطاب جاء لأهل الكفر بالدخول أولا إلى (أبواب جهنم) في قوله تعالى
( ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ)، ولم تأتي الآية مثلا بصيغة ( ادخلوا جهنم خالدين فيها ) ،والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هنا : لماذا ذكرت هنا ( أبواب جهنم) ولم تذكر( جهنم ) مباشرة ؟! إن الإجابة على هذا السؤال يحمل معه إعجازاً عظيماً ومبهراً يوافق حالة تصعيد الهلع والفزع الأعظم المرتقب من عذاب جهنم ، حيث نلاحظ أن حالة تصعيد الفزع تلك ابتدأت بحضور (عنصر المباغتة والمفاجأة ) بفتح أبواب جهنم مباشرة ثم تلتها الآن هته ـ المرحلة الثانية ـ بدخول أهل الكفر من ( أبواب جهنم ) أولاً قبل وصولهم إلى مقاعدهم من النار، فذلك الوقت وتلك المسافات التي يقطعها كل كافر داخل تلك الأبواب ( باب جهنم جزء من عذاب جهنم وكل قد عرف بابه ) حتى يصل إلى موقعه القار داخل قاع جهنم ، يحمل الكثير والكثير من عناصر تصعيد وثيرة الفزع والهلع من العذاب الخالد المقترب .
ولتقريب صورة هذا المشهد لكم سنحاول أن نستشهد بمثال ( تشبيهاً لا تطابقاً ) يلقي الضوء على عنصر تصعيد الفزع مع حضور مادة ( الأبواب ) : فمثلا نلاحظ في بعض اللقطات من الأفلام السينمائية التي تستعرض علينا قصص بعض المجرمين وإقامتهم داخل السجون ، كيف أن معظم تلك السجون مبنية على شكل أبواب ودهاليز عديدة متداخلة في ما بينها ، حيث نرى ـ مثلا ـ كيف يتم سحب المجرم وهو مكبل بالقيود من باب إلى باب داخل تلك الدهاليز والممرات حتى يصل إلى العنبر والمكان المخصص له داخل ذلك السجن ، ونلاحظ أيضا كيف يَتملّك ذلك السجين الكثير من الرعب والهلع من الموقف وهو منقاد داخل تلك الأبواب الموحشة ، لا يعرف كيف سيكون مصيره !! وما ينتظره من عقاب !!
فحضور الأبواب بالسجن هو مثال واقعي عرضناه للتشبيه فقط لتوضيح المغزى والمعنى من حضور الأبواب ، والمسافات التي يقطعها كل مجرم حتى يصل إلى مقره داخل ذلك السجن في تصعيد واضح لعنصر الخوف والفزع ، وطبعا نحن لا نشبه ( أبواب جهنم ) بـ ( أبواب تلك السجون ) ، فعذاب جهنم وأبواب جهنم الله وحده أعلم به ( ولله المثل الأعلى ) ، ولكن نحن نعرض فقط فكرة حضور ( الأبواب ) داخل ( مكان مفزع ) معد للعقاب وسحب المجرم داخل تلك الأبواب في تصعيد واضح لعامل ( الهلع والفزع ) .
وكذلك جاء الإعجاز القرآني العظيم بذكر ( أبواب جهنم ) عوض ذكر ( جهنم مباشرة ) فالكفار ينقادون داخل تلك الأبواب بما يزيد الوقع وحشة وهلعا وفزعا عظيما عليهم ،ولكي نؤكد أكثر هذا المعنى ونقف على بعض دلالاته الأخرى ، دعونا نرى ما جاء في حالة أصحاب الجنة من حقائق ومشاهد :
- أصحاب الجنة : يقول الحق تعالى (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ) ،نلاحظ في هذا المشهد أن الخطاب جاء لأهل التقوى والإيمان بالدخول مباشرة إلى جنات النعيم في قوله (فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ) أي ادخلوا نعيم الجنة خالدين فيها ، على العكس المشهد الخاص بأهل الجحيم بالدخول أولا إلى أبواب جهنم ( ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ) ، ويحق لنا طرح هذا السؤال :لِمَ لم تذكر هنا لفظ (الأبواب) وجاء المعنى بالدخول مباشرة إلى ( جنات النعيم ) ، ونظن أن الجواب على السؤال واضح وميسر لحمله دلالات اعجازية عظيمة ومبهرة ، فمن سمة النعيم وصفاته أن يكون شاسعاً مفتوحاً للعيان لا تعكره حواجز أو موانع أو أبواب توصد ، ولكي نفهم جيداً هذا المعنى فيكفى أن نرى مثلا كيف يقيم أي شخص على إقامة بستانه الخاص في حديقة منزله أو قصره ، فهو يحرص أن تكون مساحة بستانه ذا أفق واسع لا يعكر صفو جمالها ولا سعة افقها أي أبواب توصد ، أو حواجز تَمنع الاستمتاع بكل مساحة البستان وجماله وخضرته ، حتى إذا فتح صاحب الدار باب بيته أو قصره ففورا سيرى أمامه منظر ذلك البستان بأبعاده المتنامية وأفقه الجميل ، فيسرح ببصره مغتبطاً برؤية تلك الخضرة وذلك الجمال دون حواجز أو أبواب تعوق رؤية ذلك الجمال .
وكذلك جنات النعيم ( ولله المثل الأعلى ) فلم تحضر صفة الأبواب بنص الآية الكريمة ،لأن من صفات نعيمة الجنة سعتها أفقها وكمال رؤيتها ، يرى باطنها من ظاهرها وظاهرها من باطنها ، أهلها إخوانا على سرر متقابلين ، يقول الحق تعالى (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ ) [ الحجر :47 ] . ومما جاء في وصف نعيم الجنة قولهم : (رياضها مجمع المتحابين، وحدائقها نزهة المشتاقين، وخيامها اللؤلؤية على شواطئ أنهارها بهجة للناظرين، عرش الرحمن سقفها، والمسك والزعفران تربتها، اللؤلؤ والياقوت والجوهر حصباؤها، والذهب والفضة لبناتها: (غُرَفٌ مّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلأنْهَـٰر ) [الزمر:20 ] عاليات الدرجات في عاليات المقامات، بهيجة المتاع، قصر مشيد وأنوار تتلألأ، وسندس وإستبرق، وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة، وفرش مرفوعة، هم فيها على الأرائك متكؤُن. ظلها ممدود، وطيرها غير محدود، فاكهة مما يتخيرون، ولحم طير مما يشتهون، قطوفها دانية للآكلين، وطعمها لذة للطاعمين، قد ذللت قطوفها تذليلاً ) .
وختامــا :
رأينا من خلال هذا العرض المتواضع كيف أن حرفاً واحداً من حروف القرآن الكريم ( حرف الواو ) صنع لنا إعجازا عظيماً ، وكيف كان لحضور أو غياب لفظ واحد ( أبواب ) فرقا كبيرا يشرح لنا بدقة متناهية مشاهد الفوز العظيم لأصحاب النعيم ، أو العذاب المرير لأصحاب الجحيم .
إنها معجزة القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه مصداقاً لقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [ فصلت: 41-42 ] .
ويقول الحق تعالى (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ* قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) ] الزمر :27-28 ] .