غَذَوْتُكَ مَوْلُودًا وَمُنْتُكَ يَافِعًا == تَغُلُّ بِمَا أَجْنِي عَلَيْكَ وَتَنْهَلُ
إذَا لَيْلَةٌ ضَاقَتْكَ بِالسُّقْمِ لَمْ أَبِتْ == لِسُقْمِكَ إلاَّ سَاهِرًا أَتَمَلْمَلُ
كأَنِّي أَنَا الْمَطْرُوقُ دُونَكَ بِالَّذِي == طُرِقْتَ بِهِ دُونِي فَعَيْنِيَ تَهْمِلُ
تَخَافُ الرَّدَى نَفْسِي عَلَيْكَ وَإِنَّهَا == لَتَعْلَمُ أَنَّ الْمَوْتَ وَقْتٌ مُؤَجَّلُ
فَلَمَّا بَلَغْتَ السِّنَّ وَالْغَايَةَ الَّتِي == إلَيْهَا مَدَى مَا كُنْتُ فِيكَ أُؤَمِّلُ
جَعَلْتَ جَزَائِي غِلْظَةً وَفَظَاظَةً == كَأَنَّك أَنْتَ الْمُنْعِمُ الْمُتَفَضِّلُ
فَلَيْتَكَ إذْ لَمْ تَرْعَ حَقَّ أُبُوَّتِي == فَعَلْتَ كَمَا الْجَارُ الْمُجَاوِرُ يَفْعَلُ
أيها الإخوة، اعلَموا أن برَّ الوالدين من خير ما تقرَّب به المتقرِّبون، وهو من أجَل العبادات والقُربات؛ سُئِل النبي - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ العمل أحبُّ إلى الله؟ قال: ((الصلاة على وقتها))، قيل: ثم أي؟ قال: ((برُّ الوالدين))، قيل: ثم أي؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله))؛ متفق عليه.
فانظروا كيف سبَق برُّ الوالدين الجهاد في سبيل الله على أهميَّته ومكانته في الدين، ومَن أدرَك والديه أو أحدهما، فلم يَدخل بهما الجنة، فهو ممن تشمله دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((رَغِم أنفُ، ثم رَغِم أنف، ثم رَغِم أنف مَن أدرَك أبويه عند الكِبَر أحدَهما أو كلاهما، فلم يدخل الجنة))؛ مسلم.
لو لَم يَرِد في بيان عِظَم حقِّ الوالدين إلاَّ قول الله تعالى: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ [الإسراء: 23، 24]، لكان كافيًا.
ويَحسُن التنبيه إلى أمور قد يَغفل عنها البعض في التعامل مع كبار السنِّ، وخاصة الوالدين،
فمنها: أن المُسنَّ يحتاج إلى الشعور بالحنان والرعاية والعطف، فلا نَبخل عليه بذلك.
وثانيها: الحذر من الإلحاح على المسن ومطالبتِه بأن يَقتنع بما نُخبره به؛ حيث إنه لا يتحمَّل الإلحاح، ولكن يُمكن طرْحُ الأمر معه شيئًا فشيئًا ليُمكن إقناعه؛ حيث إن طبيعة هذه المرحلة من العُمر تَفرض بُطئًا في الاستجابة.
وثالثها: أنَّ قصور السمع والبصر لدى المُسن يَجعله يبتعد شيئًا فشيئًا عن أحداث الواقع، وذلك يوجب علينا التحدُّث معه ومع مَن حوله بصوت مسموع، مع محاولة جَذْب المُسن للواقع، بإخباره عما يدور حوله، وطَلبِ رأيه، ومداعبته ما أمكَن؛ ليكون قريبًا من مجتمعه، مُدركًا لِما حوله.
ورابعها: أن نُدرك أن المُسن يستمتع بالحديث عن الماضي الذي عاش أحداثه، وشَهِد صَوَلاته وجَوَلاته، فعلينا ألاَّ نَحرمه من ذلك، بل نُظهر التفاعل معه والإعجاب بما يقوله.
وخامسها: أن نَحرص على إشغال المُسن بما يَنفعه عند ربِّه، بإسماعه القرآن الكريم في الأوقات المناسبة، والقراءة عليه في الكتب الملائمة لمستواه العلمي، وترغيبه في ذِكر الله تعالى قدر الاستطاعة، وإشعاره بضرورة الاحتساب، والصبر على ما يُعانيه من أمراض أو عوارض، فلهذه من الفائدة ما لا يَخفى، ومع ذلك كله لا بدَّ أن يشعرَ الوالدان بقُرب أولادهما منهما، ومحبَّتهم للجلوس معهما والأُنس بهما، وتَسابُقهم في خدمتهما، فلنَكن على علمٍ بهذا، ولنَحرص على برِّ آبائنا وأُمَّهاتنا؛ ففي ذلك الأجرُ من الله تعالى والأثرُ الطيِّب في الدنيا.
فمَن وصَل رحمَه وبرَّ والديه، بارَك الله له في المال والولد، وأبقى له الذِّكر الحسن، ومَن أراد أن يَبرَّه أولاده، فليَبرَّ والديه، ومَن عقَّ والديه، فلينتظر العقوق من أبنائه، ولا يأْمَنَنَّ العقوبة العاجلة من الله تعالى؛ فالجزاء من جنس العمل.
نسأل الله تعالى بمنِّه وكرَمه، أن يجعلنا من البارِّين لوالديهم الفائزين بالأجر والبر، وأن يرزقَنا برَّ أولادنا؛ إنه على كلِّ شيء قدير، وبالإجابة جدير، والحمد لله ربِّ العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.