الحمدلله الذي هيأ لعباده فرص الطاعات وجعلها مشروعة في جميع الأوقات لتزكوا بها نفوسهم وتصفوا بها قلوبهم ويحطوا بها عن خطاياهم فيرقوا بها إلى أعلى الدرجات ويحققوا بها أسمى الغايات في الحياة وبعد الممات ، ألا إن لله في أيام أحدكم نفحات ، ألا إن الفائز بها من حبس نفسه على الطاعات وعكف على عبادة ربه بالذكر والصلوات وجانب الهوى والشهوات ، فأخذ من صحته لسقمه ومن فراغه لشغله ومن حياته لموته وأيم الله إن هذا لمنتهى السعادات.
والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي هو أسبق الخلق إلى الطاعات خير من صلى وصام واعتكف لربه العشر الأواخر من رمضان فصلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه وسلم ثم أما بعد :
فيا أخي الحبيب : لقد حرص الإسلام أيما حرص على ما فيه سعادة الإنسان في الدارين واهتم برسم المنهج الكامل الشامل الذي به يتم نقاء سريرته وصلاح علانيته, وإقامته علاقته مع بارئه سبحانه وتعالى ثم مع نفسه والناس أجمعين على أسس متينة وقواعد راسخة ، وقد بيّن المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم السبيل إلى ذلك بقوله : ( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب ).[1]
وإن بالاعتكاف أخي الحبيب تزكوا هذه النفس فتكون قريبة من بارئها سبحانه وتعالى ،
ولابن القيم رحمه الله في هذا المقام كلام جميل يقول فيه : ( ولما كان صلاح القلب واستقامته على طريق سيره إلى الله سبحانه وتعالى متوقفاً على جميعه على الله ولمّ شعثه بإقباله بالكلية على الله تعالى ، فإن شعث القلب لايلمه إلا الإقبال على الله تعالى ... لذا شرع الإعتكاف الذي مقصوده وروحه عكوف القلب على الله تعالى وجمعيته عليه والخلوة به والإنقطاع والإشتغال به وحده سبحانه, بحيث يصير ذكره وحبه والإقبال عليه في محل هموم القلب وخطراته فيستولي عليه بدلها ويصير به الهم كله والخطرات بذكره والفكرة في تحصيل مراضيه وما يقرب منه ، فيصير أنسه بذكر الله بدلاً من أنسه بالخلق ، فيعده بذلك لأنسه به يوم الوحشة في القبور حين لا أنيس له و لا يفرح به سواه وهذا هو المقصود الأعظم من الإعتكاف ).[2]
* ومعنى الإعتكاف / هو لزوم المسجد تفرغاً لطاعة الله تعالى لا يخرج منه إلا لما لابد منه كالذهاب للوضوء ونحوه .
وقد سئلت اللجنة الدائمة للإفتاء هل يجوز للمعتكف أن يزور مريضاً أو يجيب دعوة أو يقضي حوائج أهله أو يتبع جنازة أو يذهب للعمل؟
فأجابت : السنة ألا يزور المعتكف مريضاً و لا يجيب دعوة ولا يذهب لعمله خارج المسجد لما ثبت عن عائشة رضي الله عنها : (( السنة على المعتكف ألا يعود مريضاً ولا يشهد جنازة و لا يمس امرأة و لا يباشرها و لا يخرج لحاجة إلا لما لا بد منه )( أخرجه أبو داوود واللفظ له والدارقطني .[3]
*اعتكاف النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم :
ما كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليذر سنته الثابتة التي فيها يعتزل أهله ويطوي فراشه ويشد مئزره ، ليقوم لربه قانتاً وعلى عبادته عاكفاً وملازماً ، فكان يعتكف العشر الأول ثم اعتكف العشر الأوسط ثم اعتكف في العشر الأواخر ففي الصحيحين عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها : (( أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله ثم اعتكف أزواجه من بعده ))[4].
وعنها رضي الله عنها قالت : ( كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله ))[5].
فهذا يدل على حرصه ـ صلوات ربي وسلامه عليه ـ على هذا الأمر وذلك بمحافظته عليه حتى توفاه الله ، ثم لو تأملت في هديه صلوات الله وسلامه عليه وكيف أنه لم يترك سنة الإعتكاف طيلة حياته بل إنه في أحد الأعوام لأمر ما لم يعتكف في رمضان و مع ذلك قام بقضاء اعتكافه في شوال ، في حين ترى الناس في هذا الزمان يحرصون حرصاً شديدأً على أداء العمرة في رمضان بينما يهملون سنة الإعتكاف التي واظب عليها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حتى توفاه الله فعليكم بسنة نبيكم ...
*مدته :
على من أراد الإعتكاف أن يدخل معتكفه قبل غروب الشمس أول ليلة من ليال العشر الأواخر وتنتهي مدته بغروب شمس آخر يوم منه، وأما ما ورد في حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم صلى الصبح من ليلة إحدى وعشرين ثم دخل معتكفه , فالمراد بذلك ما ذكره ابن حجر رحمه الله في كتابه فتح الباري حيث قال : ( .. وَقَالَ الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَطَائِفَةٌ : يَدْخُل قُبَيْل غُرُوب الشَّمْس ، وَأَوَّلُوا الْحَدِيث عَلَى أَنَّهُ دَخَلَ مِنْ أَوَّل اللَّيْل ، وَلَكِنْ إِنَّمَا تَخَلَّى بِنَفْسِهِ فِي الْمَكَان الَّذِي أَعَدَّهُ لِنَفْسِهِ بَعْد صَلَاة الصُّبْح ) واختار ذلك الشيخ ابن عثيمين رحمه الله .
أخي الحبيب: إن من فضل الله على هذه الأمة المحمدية وعليك خاصة أيها المعتكف، أن جعل في هذه العشر ليلة هي خير من ألف شهر نعم خير من ألف شهر تعدل عبادة ثلاث وثمانين سنة وأربعة أشهر ...
نعمة أعظم بها من نعمة ومنحة أعظم بها من منحة وفرصة ربانية لا يوفق لها إلا المخلصون لله أعمالهم العاملون للصالحات التائبون لربهم الخائفون منه سبحانه الراجون لرحمته وغفرانه يقول فيها جل وعلا : (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4 (سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5).[6]
فهي ليلة مباركة لكثرة خيرها وبركتها وفضلها ، وهي خير من ألف شهر في الفضل والبركة والشرف .. وفيها تتنزل الملائكة .. وهي سلام للمؤمنين من كل مخوف لكثرة من يعتق فيها من النار ويسلم من عذابها .
أخي الحبيب المعتكف /
ليلة تغفر فيها الذنوب وتقال فيها العثرات وتستجاب فيها الدعوات من قامها إيماناً بالله وإحتساباً للأجر غفر له ما تقدم من ذنبه ، جاء في الصحيحين ان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : (( من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه )).
واختلف في تحديدها فقيل: في الوتر من العشر ، وقيل: في السبع الأواخر وقيل ليلة سبع وعشرين وقد أخفاها الله عز وجل رحمة بعباده ليجدوا في طلبها في تلك الليالي الفاضلة فهي في العشر الأواخر.
فأنت أخي المعتكف العشر ستحصل على أجرها بإذن الله ، نسأل الله من فضله , وأكثر من قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : (( اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني )).[7]
من الأخطاء التي يقع فيها بعض المعتكفين :
1) إضاعة الوقت فيما لا نفع فيه :
إن المتأمل في حال بعض المعتكفين يرى من يشغل وقته منهم في القيل والقال وكثرة الإتصالات والإتيان بالأكل والشراب ، يقول الشيخ د. فالح الصغير حفظه الله : ( .. ومن مستلزمات هذا الإعتكاف وما فيه أن يتفرغ المعتكف للإنشغال بمناجاة خالقه سبحانه وتعالى ودعائه ومحاسبة نفسه و قراءة كتاب الله سبحانه والتفكر في أمور دينه والإشتغال بإصلاح عيوب نفسه ويقضي أغلب وقته في هذه الأمور ... ثم يقول ومن بدهي القول : أن لا يشتغل المعتكف بامور الدنيا ويجعل معتكفه مأوى للزائرين لتبادل اللأحاديث الدنيوية ولتناول المطعومات والمشروبات .. أو يكون اعتكافه فيه إيذاء لإخوانه المسلمين وإزعاجهم كالنوم في طرقاتهم أو في الصفوف المتقدمة أو نشر ثيابه وملابسه أمام المصلين وغير ذلك مما يؤثر على هدف الاعتكاف وغايته فينشغل المعتكف بدنياه عن دينه ويبتعد القلب عن الله سبحانه )[8].
2) كثرة النوم:
إن مما يلاحظ على بعض المعتكفين ضياع أوقاتهم في النوم , ولذا فإن المنبغي للمعتكف أن يجاهد نفسه باستغلال الأوقات بالصلاة والدعاء والاستغفار وليجعل وقت راحته ونومه بالنهار فإن ذلك أحضى لإغتنام أوقات الفضائل والأعطيات في تلك الليالي ليال العتق والخلاص من النيران.
وأخيراً أخي الحبيب المعتكف إليك بعضاً من فوائد الإعتكاف : 1) يعين الإنسان على أن يؤدي الصلاة بخشوع وخضوع لأن المعتكف باعتكافه قد انقطع قلبه وجوارحه عن كل شيء سوى طاعة الله تعالى وما يوصل إليها . 2) أنه يعين الإنسان على فعل نوافل الصلاة والإكثار منها وبذلك يحرز باعتكافه ثواب المنتظر للصلاة . 3) تعويد النفس على إطالة المكث في المساجد وتعلق القلوب بها لذا فإن من السبعة الذين يظلهم الله في ظله رجل قلبه معلق بالمساجد كما جاء في الحديث[9]. 4) أنه يسهل على النفس قيام الليل وخاصة في المسجد الحرام . 5) انه يربي النفس على الصبر على الطاعة وقطع دابر الشيطان والنفس الأمارة بالسوء. 6) إنه فرصة لمحاسبة النفس وتقييم عوجها وتقصيرها فهو بمثابة دار الاستشفاء فكما أن الأبدان تحتاج إلى استطباب واستشفاء فكذلك احوال هذه النفس .
هذه أخي الحبيب بعض الفوائد التي هي غيض من فيض وقليل من كثير فهو فضل كبير وأجر عظيم والبخيل من بخل عن نفسه.
اسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يعيننا على إصلاح أنفسنا و يوفقنا لأداء هذه السنة و أن نعمر بيوت الله بإحيائها وا ن يوفقنا لكل خير وان يرزقنا الإخلاص في القول والعمل إنه خير مسئول وأعظم مأمول ولا حول ولا قوة إلا بالله وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
عزيزي الزائر أتمنى انك استفدت من الموضوع ولكن من
اجل منتديات شبكة همس الشوق يرجاء ذكر المصدرعند نقلك لموضوع ويمكنك التسجيل معنا والمشاركة معنا والنقاش في كافه المواضيع الجاده اذا رغبت في ذالك فانا لا ادعوك للتسجيل بل ادعوك للإبداع معنا . للتسجيل اضغظ هنا .
بارك الله فيــــــــــك
وجعل ما كتبت في ميزان حسناتك يوم القيامة .
أنار الله قلبك ودربك ورزقك برد عفوه وحلاوة حبه ..
ورفع الله قدرك في أعلى عليين ...
حفظك المولى ورعاك وسدد بالخير خطاك ..
احتــــرامي وتــقديري...
بارك الله فيــــــــــك
وجعل ما كتبت في ميزان حسناتك يوم القيامة .
أنار الله قلبك ودربك ورزقك برد عفوه وحلاوة حبه ..
ورفع الله قدرك في أعلى عليين ...
حفظك المولى ورعاك وسدد بالخير خطاك ..
احتــــرامي وتــقديري...